مقالات التقرير

الخيانة والحب فى Suite Française

قراءة سهلة

فى اليوم الثالث للدورة الأولي لمهرجان كان السينمائى الدولي، تم ايقاف المهرجان بسبب اندلاع الحرب بين الدولة الفرنسية والبريطانية من جهة، وبين الدولة الألمانية النازية بقيادة (هتلر) من جهة أخري. توقف المهرجان الوليد فى يومه الثالث عام 1939 لظروف الحرب. قبل ان يتم احياؤه مجدداً فى فرنسا بعد انتصار الحلفاء فى 1946. ومابين سنة الايقاف وعام العودة.. تدور أحداث فيلم Suite Française

يبدأ الفيلم بمشاهد افتتاحية لما يمكن تسميته “مرحلة ما قبل جحيم الحرب العالمية الثانية” هذا الصراع المسلح الذى التهم العالم من اقصاه الى اقصاه، مبرهنا على العالم بكل ما يظهره على السطح من تحضر ومدنية، قادر على التحول للنقيض من دمار وقلة احتشام فى غضون شهور معدودة!

نظراً لعدم تطور اجهزة الاعلام فى زمن الحرب، كانت اخبار احتلال باريس لم تصل بعد للقري الواقعة على الطرق المؤدية من والى العاصمة الأم، الأمر الذى جعل سكان احدي القري النائية بعيدين عن الاخبار الحقيقية للحرب، وان كانت دلائل هزيمة فرنسا تطل من وراء الأحداث بقوة.

الا ان الحرب المشتعلة، والجنود الألمان، وحتي السيد (هتلر) المتوحش الدموي، لا يستطيعوا ايقاف السيدة (انجيلير) او Kristin Scott Thomas عن تحصيل الايجارات من السكان الفقراء الذين يسكنون المنازل والمزارع التابعة لها، كانت هادئة كثعبان، حاسمة كأسد، ومباغتة كثعلب يغتنم الفرصة لنهش فريسته، ولم تكن الفريسة سوي المستأجرين الذين اوقعهم حظهم العثر فى  السكن فى ممتلكاتها.

على النقيض منها كانت لوسيل انجيلير، زوجة ابنها، والتى قامت بدورها Michelle Williams فى دور متميز، كانت تمتاز بالرقة والهدوء، واحساسها الدائم بالشفقة على المستأجرين الفقراء، تتزامن مشاعرها مع انتظارها قدوم زوجها من حرب يبدو أن الفصل الأول فيها قد كُتب بحروف من دم فى ساحات باريس. لقد خسر الفرنسيين الحرب يا ساده.. صدقوا هذا او اخبطوا رؤوسكم فى الحائط!

“يجب ان اعاملهم بلا شفقة. لو اشفقت عليهم لما كان زوجك ليجد مكانا ليعيش عندما يعود من الحرب!”

هكذا تبرر مدام انجيلير تعاملها الصعب مع السكان، وهى الحقيقة التى تدركها زوجة الابن وان كانت غير قادرة على التعاطي معها. هل سيوقف مدام انجيلير شىء؟

نعم! انه طوفان الحرب الذى يضرب البلدة الصغيرة كاعصار مدوي يتلاعب بسفينة بلا ربان فى عرض المحيط فى ليلة بلا قمر! الطيران الالماني يقصف طوابير الهاربين من البلدة الصغيرة بلا رحمة، كان هذا فى زمن لم يعرف بعد احتراماً لحقوق المدنيين، او رأفة بالبشر الذين غادروا قراهم بلا أمل، فيما عرف تاريخياً بأحداث (سفر الخروج)، وهو اسم مشتق من الأسم التوراتي لرحلة هروب اليهود من مصر بقيادة نبي الله موسي.

يستيقظ أهل القرية الصغيرة فى الصباح التالى على مشهد دخول القوات الالمانية الغازية المنظمة للقرية. كان أول ما غيروه فى القرية هو توقيت الساعة الكبيرة فى الميدان، ليوافق التوقيت الألماني، تغيير صغير لكن كان له تاثيراً عظيماً على نفسية اهل القرية. ومن كنيسة القرية الرئيسية تم اعلان انتهاء الحرب بالنسبة للفرنسين، واستسلام القرية والدولة الفرنسية بالكامل.

هكذا اجبرت القرية على الاستسلام، واجبر اهلها على استضافة الظباط الالمان للسكن فى ارقي وافضل مساكنها، وكان من نصيب اسرة انجيلير ظابط الماني وسيم –ومنظبط فى نفس الوقت- هو Sam Riley والذى يبدأ سكنه فى المنزل بتعديل الساعة للتوقيت الألماني من جديد، وان كان قد ابدي احتراماً لقواعد الأسرة ورغبتهم فى عدم تبادل اي حديث معه.

تتتابع أحداث الفيلم بانسيابية مع خلفية موسيقية متميزة ساعدتنا على متابعة الاحداث والقفز قفزاً مع تتابعات السيناريو المتخم بالأحداث، لنتابع كيف اختلفت حياة القرية الفقيرة مع وصول الألمان، التى لم يكن كل ظباطها بسلاسة الظابط الألماني الذى عاش مع عائلة انجيلير، والتي بدأ اهل القرية فى كتابة الشكاوي الكيدية بحق العائلة، انتقاماً من اسلوب زوجة الابن المتعالي فى المطالبة بالايجار، وتحويل حياة السكان لجحيم مضاعف، وهنا يبدأ الفصل الاهم للفيلم فى الظهور، عندما تتحول الكراهية فى نفس الزوجة (لوسيل) لاعجاب بسيط بالظابط الالماني، وقدرته على تقديم المساعدات البسيطة مثل كف أذي أحد الظباط عن زوجة احد السكان، لكن الأمر يخرج عن السيطرة حين تقع جريمة قتل بحق الظابط الألماني المتعنت، وتبدأ حملة شرسة فى البحث عن القاتل والذى لم يجد مفراً سوي الاختبار فى المكان الأخير الذى يمكن الشك فيه : منزل عائلة (لوسيل) الموصوم بالعار، والمسكون بالظابط الألماني الذى وقع فى عشق (لوسيل)، عشق تحرمه الكتب السماوية، وكتب القانون العسكري، وحتي ابسط قواعد المنطق.

هكذا يتسلل كيوبيد من حيث لا يدري الجميع، ويطلق سهما يجمع بين فرنسية مُحتلة الأرض والبيت، وبين ألماني تفتش أحذية جنود بلاده الثقيلة البلدة شبراً شبراً بحثاً عن قاتل الجندي المختبىء على بعد سنتيتمترات قليلة من محل اقامة الجندي العاشق! اى ورطة ادخلنا لها المخرج Saul Dibb ! واي تعاطف يرجوه منا عندما نري (لوسيل) تخون الدين والدولة معاً؟!

تبدأ أحداث النهاية فى التتابع، تنتصر (لوسيل) لقضية وطنها وأهل قريتها فى النهاية، تدرك حتمية استحالة علاقة الحب التى دخلت فيها مع من انتهك بلادها ومنزلها، ويدرك هو الأخر ان حب (لوسيل) لبلدها تفوق لديها على اى حب أخر، تتدافع الأحداث عند نقطة التفتيش النهائية قبل مغادرة القرية، سيارة لوسيل تنطلق حاملة بداخلها القاتل الفار من الألمان، الى الطريق المفتوح نحو باريس حيث يمكن الاتصال بالمقاومة الشعبية الوليدة التى تكونت ضد الأحتلال النازي. حينها يتلاقي الاطراف جميعاً ويصير على لوسيل وضع حد للعلاقة الشخصية بينها وبين الجندي الألماني لحساب الوطن.. بالدم!

ينتهي الفيلم وتطغي الموسيقي التصويرية، بينما تبدأ الأسئلة فى التدافع لعقل المشاهدين بلا نهاية.

عام 1945 وضعت الحرب العالمية اوزارها، انتحر هتلر فى مخبأه السري أسفل مبني المستشارية، قبلها بفترة وجيزة اعلنت باريس استقلالها بعد مقاومة شعبية جارفة. وبعدها بعام واحد بدأت فعاليات المهرجان الاول لـ(كان) فى المدينة التى تحمل نفس الأسم. توقف المهرجان عام 1950 و 1968 لظروف تمويلية، لكنه لم يتوقف ثانية حتي لحظة كتابة هذه السطور، ليعلن انتصار الفن على الحرب، مهما ازهقت الأرواح.. وطال الزمن.

زر الذهاب إلى الأعلى