مقالات التقرير

بتوقيت القاهرة : عندما يشوه الحاضر الماضى الجميل

قراءة سهلة

اسأل الرجال العجائز على مقاعد المقاهي عن أفضل سنوات عمرهم، سيجيبونك ودخان (الشيشة) لم يغادر فضاء المكان : الماضى أجمل وأمتع من الحاضر.

أفتح بابا لحديث لا ينتهي مع النسوة العجائز فى الحارات المصرية، سيقولون بلا مواربة ان سنوات شبابهن كانت الأحلى والأكثر دفئا وحميمية من اليوم.

وبين الماضى الجميل والحاضر المشوه، يتراقص (بتوقيت القاهرة) من خلال ثلاث رحلات تدور فى فلك العقلية المصرية، وتقارن بين الماضى الجميل، والحاضر الأكثر تشوها وغرابة.

يصطحبنا المخرج (أمير رمسيس) فى رحلة تمتد من بداية اليوم حتي نهايته، فى الواقع هى رحلات ثلاث، تتشابك وتتقاطع من خلال سيناريو محكم يحاول الألمام بكافة التفاصيل، وان عابه اضطرارة للتلاعب بالمنطق فى بعض الأحيان فى سبيل تحقيق الأشتباك بين مصائر الابطال فى الدقائق الأولى من الربع الاخير من الفيلم.

يبدأ الفيلم بمشاهد افتتاحية للأب العجوز المصاب بالزهايمر (نور الشريف)، يقع فى مشكلة مع ابنه المتشدد دينيا بسب تناوله الخمر، يصفعه الابن فى مشهد غير مبرر يعكس كراهية الابن لأبيه، انه الحاضر المريع حيث يمر مشهد ضرب الأبن لأبيه مرور الكرام، ولا ينزعج سوي الابنة البارة (درة) التي تحاول أن تطيب خاطر أبيها، الا ان قرارا بالمغادرة قد تشكل فى عقل الاب رغم نسيانه معظم ما يمر حوله.

ينتقل السيناريو بالمشاهد الى (حازم) او (شريف رمزي)، تاجر مخدرات عصري، ينطلق من الأسكندرية (على الرغم من اسم الفيلم المرتبط بالقاهرة)، لتوصيل شحنة مخدرات لزبائن من الطبقة الراقية فى مصر، من جديد يوجه الفيلم اصابع الاتهام لمصر بتوقيتها الحالي، ما الذى دفع الشاب الوسيم الثري لهذه المهنة المحفوفة بالمخاطر؟ يخبر احدي زبائنه (كندة علوش) بقصة مهلهلة ويترك تقييم مدي صدقها للقارىء، وينطلق التاجر العملى الساخر من العواطف الأنسانية فى رحلته التي تصطدم بكمين للشرطة، يجبر على اثره بالتخلى عن حقيبته المحملة بما لذ وطاب من صنوف السم، ومن هنا تبدا مشكلته الكبري فى التشكل.

المشكلة الكبري تشكل وجدان الفنانة المعتزلة (ليلي السماحي)، قامت بدورها الفنانة (ميرفت امين)، كانت فيما مضي –ليلي- محط السمع والأبصار، لكنها الان مجرد سيدة تبحث عن ظل رجل لتحتمي به، تضع غطاء الرأس باهمال قبل أن تفتح الباب، وتسعي للزواج من رجل له أصول دينية متشددة، يخبرها أنه مستعد لنسيان ماضيها مقابل أن تحصل على الطلاق من الفنان المعتزل هو الأخر (سامح كمال)، وقام بدوره الفنان (سمير صبري)، لم يتزوج (سامح) من (ليلي) حقيقة، لكن مشهدا سينمائيا جمعهما فيما مضى تزوجا فيه امام الكاميرات، انه الواقع الديني المضمحل الذى تعانيه مصر هذه الأيام، فوضى الفتاوي و(شيوخ) تخصصوا فى وضع العقدة فى المنشار كما يقول المثل الشعبي المصري الشهير.

تنطلق ليلي بحثا عن خلاصها، لتصطدم بالنسخة الثانية من الفنان المعتزل (سامح كمال)، عجوز يطارد صحفية مبتدئة، ويرفض طلب (ليلي) جملة وتفصيلا، لتستمر المشكلة بينهما فى ترهل واضح للسيناريو الذى وقف عاجزا هو الأخر أمام عبثية المشهد الذى صنعه بيده!

من القاهرة ايضا تنطلق الشابة (سلمي)، والتى قامت بدورها (ايتن عامر)، شابة مصرية فى ريعان شبابها، تعاني تذبذبا واضحا فى الشخصية، ما بين علاقتها بحبيبها (وائل)، قام بدوره (كريم قاسم)، وبين رغبتها فى ممارسة الحب معه، الصراع فى شخصية ليلي تجسد فى محورين أساسين، الاول خوفها من العادات والتقاليد والدين، التي تجرم ما ستقدم عليه بعد ساعات معدودة، وبين رغبتها فى ارضاء حبيبها المُلح وارضاء رغبتها الدفينة التي تخشى الأعتراف بها حتي أمام نفسها.

فى واحدة من اقوي الجمل الحوارية فى الفيلم تخبر (سلمي) حبيبها انها كانت تتوقع (المرة الأولى) فى حياتها فى ديكور ممهد بالشموع وبعد رقصة رومانسية بينها وبين حبيبها، وهنا تلقى (سلمي) الضوء على اختلاف نظرة المجتمع للفتاة التي تقدم على هذه الخطوة، والفتي الذى يقدم على نفس الأمر، المجتمع ينظر بعيون مغلقة للشاب، بينما يفتح عينيه على مصراعيهما ليضع الفتاة محل الشيطان… ويرجمها.

تتقاطع المصائر والأحداث بعد ذلك بقليل، يلتقى العجوز الهارب بحثا عن ذكري مشوة لماضى جميل مع تاجر المخدرات الذى يحاول الهرب من تجار اكثر قوة ونفوذا، بينما يظل الوضع بين الثنائى (سامح) و (ليلي) و (وائل)  و (سلمي) كما هو، يعرض السيناريو العديد من المشاهد  التي لا قيمة لها سوي زيادة وقت عرض الفيلم فى ترهل درامي غير محمود، وهو الماخذ الوحيد – والكبير – لنا على الفيلم.

لعبت الموسيقي التصويرية دورا هاما فى الأحداث، تناغمت بهدوء على خلفية المشاهد بانسيابية متميزة، وعزفت على اوتار الديكورات المصنوعة باهتمام والمناسبة للخلفيات الاجتماعية والنفسية للأبطال باحترافية متميزة، جاء أداء (سمير صبري) متميزا لحد دفعنا فى بعض المشاهد للاعتقاد ان هذه الحياة العابثة هى حياة الفنان نفسه، بينما قام العظيم (نور الشريف) بدور اختلط لدينا فهمه – لفرط اتقانه – بين تخوفنا من ان تكون هذه الحالة الصحية الحقيقية للفنان، وبين الشخصية التى يؤديها، اما (ميرفت امين) فجاء أدائها باهتا  ضعيفا وغير متناسب مع تاريخها السينمائى الحافل، بينما انفرد الشباب (ايتن عامر) و (شريف رمزي) ببطولة مشرفة وأدوار لا تنسى، بينما سقط (عابد عناني) و (كريم قاسم) فى فخ  الشخصيات (الكليشية)، مع ظهور متفرد لبيومي فؤاد وكنده علوش فى مشاهد قصيرة مؤثرة.

ينتهي الفيلم بنهاية مفتوحة، لا نعلم خلالها هل وصل الأبطال لمبتغاهم النهائى، النهاية المفتوحة مقصودة، يستطيع كل مشاهد تفسيرها كما يحلو له، لعبة ممتعة مارسها (امير رمسيس) باحترافية عالية، وان كان السؤال المتروك لنا فى النهاية لنجيبه بصراحة :

هل كان الماضى بمثل هذه الروعة؟ وهل الحاضر بكل هذا التشوه؟

الاجابة نتركها لكم فى فضاء التعليقات.

زر الذهاب إلى الأعلى