فاتن أمل حربي: فاتن ابراهيم عيسى حربي!
لو كنتم من محبي سينما يوسف شاهين، هاتلاحظوا أن بصمته واضحه في أفلامه، لدرجة أن أبطاله كانوا بيتكلموا ويتحركوا على الشاشة بطريقته. لأنه كان شايفهم مجرد أدوات بتقدم وجهة نظره في الفيلم. وبين الفنانين انتشر مصطلح (الخروج من عباءة يوسف شاهين) كتعبير عن المعاناة اللي بيعيشها الممثل علشان يسترد طريقة أداؤه الطبيعية. بعد التعاون مع (جو)
قد تختلفوا أو تتفقوا مع إبراهيم عيسى وأفكاره، لكن لا اختلاف على أنه كاتب مُحترف، جرئ، قادر على اثارة الجدل باستمرار، وقادر على فرض رؤيته الشخصية ومفرداته على أي عمل بيكتبه، حتى أننا واحنا بنتكلم عن عمل بتقف وراه مؤسسة فنية عملاقة زي العدل جروب، وبتقوم ببطولته فنانة من أشهر فنانات مصر (نيللي كريم)، لسه عيسى قادر على خطف الأضواء ناحيته كمؤلف للعمل. وقادر على اجبارنا اننا نفرد مساحة كبيرة للكلام عن شغله، ودي مساحة قلما أخدها كاتب في مصر. ودي موهبة وده مجهود يستحق التحية والاحترام.. لكنها كمان، مسئولية كبيرة.
مسلسل (فاتن أمل حربي) بيحمل إسم بطلته، وبتقوم بدورها نيللي كريم، وهي زوجة بتحاول تحصل على جزء ضئيل من حقوقها الأدمية بعد انفصالها عن زوجها (قام بالدور شريف سلامة)، واللي بيراوغها بكل الطرق علشان يحول حياتها لجحيم. الجحيم اللي اشترك في صناعته مجموعة متهمين قرر إبراهيم عيسى يوقفهم في القفص ويحاكمهم بقلمه.
كل حلقة من حلقات (فاتن أمل حربي) بتبدأ بمشهد (فلاش باك)، يورينا خناقة من الخناقات بين فاتن وسيف زوجها. المشهد الافتتاحي في بداية كل حلقة الهدف منه هو أننا نشوف مدى انحطاط وسفالة الزوج، وضربه عرض الحائط بأي قيمة نبيلة في الحياة. لدرجة أننا حسينا بالملل مع بداية كل حلقة، بسبب أننا مش بنشوف أي تغيير في القصة. وده له علاقة بطريقة رسم الشخصيات.
المفترض مع كاتب مُحترف بحجم إبراهيم عيسى، أنه يقدم لنا شخصيات عندها تنوع في الصفات. زي أننا نشوف الزوج قاسي مع زوجته لكن بيحب أولاده. بخيل في المصاريف على البيت لكنه صديق جيد مع أصحابه. لكن اللي شوفناه في (فاتن أمل حربي) أن شخصية الزوج تم الصاق كل الصفات المنحطة به. هو زوج عنيف، قاسي، بخيل، أب بارد بلا مشاعر، ندل مع أصحابه ومتهرب من دفع التزاماته المالية مع أسرته ومع المحامي بتاعه. وفوق كل ده هو فاهم الدين بطريقة غلط وبيستغله علشان يُحكم سيطرته على زوجته! طبعا المُشاهد مش بياخد وقت طويل علشان يكره سيف الدندراوي أو شريف سلامة.
على الناحية التانية بنشوف نيللي كريم أو فاتن أمل حربي.. سيدة محترمة بتشتغل في وظيفة ثابتة وبتساعد زوجها بفلوسها. بتبذل قصارى جهدها علشان بيتها يكون نظيف وهادي وزوجها يكون راضي، بتحب أصحابها وبتخدمهم، بتقف جنب الضعيف وتساعده، بتحب أطفالها وبتهتم بدراستهم وحالتهم النفسية. شريفة مش بتقبل الرشوة، وبتفضل أولادها على نفسها في كل حاجه.. هل ناقص حاجه تانيه لـ(فاتن) علشان تكون ملاك؟ ناقصها جناحين فقط!
عندنا هنا مشكلة في طريقة مذاكرة وكتابة الشخصيات الرئيسية في المسلسل. بمعنى أن المفترض الشخصيات تكون أقرب للواقع والمنطق من اللي شوفناه. كل شخصية لازم تبقى خليط بين الخير والشر، ويكون لها جوانب سلبية زي ما لها جوانب ايجابية والمفترض يتم تبرير أخلاق وصفات كل شخصية من الشخصيات دي اعتماداً على تاريخ سابق لها يعرفه المُشاهد. لكن اللي حصل ان إبراهيم عيسى قرر أنه يقدم لنا الشخصيات بإسلوب (هو كده.. خلقته كده.. مولود كده) ودي مشكلة بتخلي المشاهد يفقد تعاطفه مع الشخصية ويحس أنها مش شبهه. ناهيك عن أن تركيز القصة بالكامل كان على ظلم الراجل للست، مع تجاهل تام لفكرة أن مش كل المظلومين هم السيدات فقط، وأن محاكم الأسرة مليانه حالات بتكون فيها المرأة هي الطرف المُعتدي.
الغريب أن الشخصيات نفسها يطلع منها أحسن من كده يعني مثلا عندنا شخصية (ميسون) -قامت بالدور هاله صدقي- وهي صديقة البطلة وصاحبة اللمسة الكوميدية في الأحداث، واللي على الرغم من أننا بنشوفها شخصية مرحة، لها جانب مُظلم متعلق باختفاء زوجها. وشخصية شكيب المحامي – قام بالدور محمد ثروت- اللي رغم اهتمامه بالشهرة والمتابعين والترند، لكنه بيخاف من الدخول في مواجهة لتعديل قانون الأحوال الشخصية. لكن الجوانب الإضافية مش بيتم التركيز عليها أو استغلالها والحقيقة أن عندنا أمل أن الشخصيات يتم الغوص في تفاصيلها بشكل أفضل من مجرد الصاق صفة واحدة فقط بيها واختزالها في الصفة دي، في الحلقات المتبقية من المسلسل.
بندخل بعد كده في خط جانبي للأحداث، من خلال اصطدام فاتن بلجنة الفتوى في الأزهر، لأنها عاوزه تثبت أن مافيش أية في القرأن الكريم بتحرم الأم من أطفالها في حالة زواجها للمرة الثانية. والحقيقة أن ده صراع مُقحم تماماً على السيناريو، لأن فاتن زي ما بنشوف في المسلسل مش حاطه فكرة الزواج الثاني في دماغها أصلا! لكن من الواضح أن إبراهيم عيسى عاوز يناقش قضية سيطرة رجال الدين على تفسير النص الديني. ودي قضية وهب نفسه لها من فترة طويلة، من خلال مقالاته وبرامجه، لكن كنا بنتوقع أنه يخلي قصة مسلسله بعيدة عنها، خاصة أن القصة في حد ذاتها مُحملة بكمية كبيرة من الهموم والقضايا اللي تستحق المناقشة، واللي لو كان التزم بالخط الأساسي لمناقشتها كُنا هانشوف عمل عظيم بجد.
التحول في قصة فاتن أمل حربي، فرض على السيناريو عبء جديد، وبدأنا نحس أن الأبطال بتعمل مشاهد حوارية طويلة، أشبه بمقالات إبراهيم عيسى، وكأننا بنقرأ كتاب أو سلسلة مقالات لكن في إطار درامي وعلى لسان شخصيات مُختلفة. ودي مش جديدة على إبراهيم عيسى وسبق وشوفناها بشكل مباشر أكتر في فيلم (الضيف) اللي لعب فيه خالد الصاوي شخصية كاتب بيتعرض لمحاولة خطف على يد شاب متطرف دينيا. وحسينا ان الممثلين بتتكلم بلسان عيسى زي ما كانوا بيتكلموا بطريقة يوسف شاهين في أفلامه.
من هنا بدأنا نشوف سيناريو مُثقل بوجهة نظر شخصية عاوزه تطلع من خلاله، بالتالي بيتم (تفصيل) الأحداث علشان تناسب وجهة النظر دي حتى لو كانت مشاهد مش واقعية، زي مشهد خناقة نيللي كريم مع الشيخ المسئول عن الفتوى (الشيخ يحيي) – قام بالدور محمد الشرنوبي- لأننا عارفين من خلال تعاملنا مع لجنة الفتاوى في الأزهر، أنهم دارسين وعارفين كويس أصول الفتاوى اللي بيصدروها، ومستحيل يخرج منهم كلمة (ده الكلام اللي انا حافظه) اللي قالها الشيخ يحي. لكن السيناريو كان عاوز يوصل لحاجه معينة بالتالي قرر يدوس على المنطق في طريقه.
الحضور الطاغي لابراهيم عيسى مؤلفاً، ورغبته في إضافة طبقة تانيه للأحداث غير الطبقة الأساسية اللي هي أصلا مليانه مشاكل وقضايا محتاجه مناقشة، كان لازم يتعالج اخراجياً بشكل جيد. وهنا ييجي دور محمد جمال العدل. واللي الكيميا بينه وبين إبراهيم عيسى ممتازة، وسبق وتعاونوا في فيلم صاحب المقام و المفترض يتعاونوا في فيلم (الملحد) اللي بيتم انتاجه حاليا. وأصلاً محمد العدل مش غريب على الأعمال اللي بتناقش قضايا دينية وأخرج قبل كده مسلسل (الداعية) لهاني سلامه.
محمد نجح اخراجياً أنه يقدم صورة متناسبة مع القصة. كل كادر كان بيعبر عن الحالة النفسية لنيللي كريم، وقدر يجسد لنا حالة الصراع والكر والفر بين أقساط الشرطة وقاعات المحكمة، وعمل شغل ممتاز بالاضاءة، وإن كان المسلسل كله محتاج اضاءة أكتر شوية لأن بعض المشاهد كانت مُظلمة بشكل أكتر من المطلوب.
ساعد محمد العدل في مهمته انه بيتعامل مع نيللي كريم في البطولة. ونيللي ممثلة مذاكرة كويس الشخصية اللي بتأديها، وعارفه تورينا انفعالات مُختلفة من خلال نظرة عينها وطريقة كلامها. ونقدر نقول أن شخصية (فاتن أمل حربي) هي النسخة المُقاتلة الرافضة الـ(مقاوحة) من شخصية (ذات) اللي قدمتها نيللي كريم باحترافية قبل كده. شريف سلامة نجح في دوره بمجرد ما حسينا بكراهية شديدة ناحيته كل مره نشوفه فيها على الشاشة. ومن الواضح أنه وضع نفسه على بداية طريق يستحقه بعد فترة من التخبط والغياب
محمد ثروت بيخرج من الشخصية النمطية الكوميدية اللي بيقدمها في كل أعماله تقريبا، علشان يقدم شخصية شكيب المحامي. ودي شخصية رائعة لها أبعاد أكتر من مجرد أنها تكون خيط كوميدي لطيف. أحيانا الأداء بيفلت من محمد وبيرجع تاني لشخصيته اللي اتعودنا عليها. وده ملاحظينه أكتر في الحلقات الأخيرة، لكن نتمنى يفضل ماسك تفاصيل شخصية شكيب زي ما هي بدون نمطية.
بالحديث عن الخروج من الشخصيات النمطية، عندنا شخصية المستشار داوود شتا لخالد سرحان. وخالد من الممثلين المحترمين والقادرين على أنهم يلعبوا من مناطق جديدة عليهم، بعد سنين طويلة من حصرهم في أدوار نمطية جدا. نفس الكلام ينطبق على محمد شرنوبي اللي حسينا أنه بيتمرد على حصره في نوعية أدوار معينة، لكن نتمنى أن كل الممثلين يفضلوا متمسكين بخيوط شخصياتهم الجديدة لنهاية الأحداث. ويلعبوها من نفس المنطقة الجديدة. عليهم وعلينا.
هاله صدقي قدمت دورها كصديقة للبطلة وكخيط كوميدي خفيف بشكل ممتاز، كذلك محمد التاجي اللي قدم شخصية (شفيع) بطريقة مختلفة وجميلة. ونعتقد أن دوره هايكون أكبر في الحلقات القادمة.
المشاكل الزوجية في مصر، وانتشار حالات الطلاق بشكل مفزع، والمنازعات اليومية في محكمة الأسرة، تستحق اهتمام وتسليط ضوء ودراسة حقيقية أحسن بكتير من اتخاذها (كوبري) في معركة فكرية، شوفنا جولات منها في البرامج التليفزيونية والمقالات الصحفية. لكن في كل الأحوال حالة الجدل اللي اثارها مسلسل فاتن أمل حربي، تستحق الاحترام، رغم أنها ألقت حجر ضخم في مياه غير راكده بالمرة.