نور الشريف.. فى رثاء جيل بأكمله!
على الرغم من الرثاء الذى يستحقه نور الشريف كفنان عظيم قدم الكثير للسينما العربية بوجه عام، والسينما المصرية بشكل خاص، الا ان رثائنا له يتحول من رثاء لفنان عظيم لرثاء جيل بأكمله، ويخرج من اطار رثاء القدوة الفنية الكبيرة الى رثاء انفسنا نحن قبل ان نرثى الفنان الراحل.
لا يمثل نور الشريف أو (أخر الرجال المحترمين) – كما خرجت علينا بعض الصحف المصرية فى نعيه – فنانا كبيراً محترماً ومحباً لفنه فحسب، بل انه يمثل جيلاً كاملاً عاش وتربى على اعماله واعمال ابناء جيله الذين رحلوا واحداً تلو الأخر فى صمت، وأخذوا معهم فيما أخذوا، ذكريات تربينا عليها وحياة كاملة مرت امام شاشات التلفاز وشاشات السينما التى حملت بصماتهم بالحجم الكبير!
هذا المولود فى نهايات شهر ابريل عام 1946 فى برج الثور بأسمه الأصلي (محمد جابر)، وقرر ترك عالم كرة القدم حيث كان يلعب ضمن اشبال فريق الزمالك بالقاهرة، قرر ترك كرة القدم ليتفرغ للتمثيل الذى كان يعشقه. تخرج فى معهد التمثيل عام 1967 وكان الأول على دفعته ليبدأ حياته الفنية بخطوات بطيئة.. لكن واثقة.
رجل الثور سيظل يحاول ويثابر إلى أن يحقق النجاح ونادرا ما تجده يصاب بالإحباط أو اليأس. ربما يبدو لبعض الناس بطيئا في خطواته وهادئا، ولكن إذا شاهدتِ الوجه السيء له أو أغضبتيه فبالتأكيد ستندم.
رشحه الفنان سعد اردش لدور فى مسرحية الشوارع الخلفية ثم تعرف عليه الفنان عادل امام اثناء دوره فى مسرحية (روميو وجوليت) ورشحه للقيام بدور فى فيلم قصر الشوق فحصل على شهادة تقدير وهو بعد يتلمس خطواته الأولى فى عالم الفن!
يتميز رجل برج الثور بأنه دءوب ويمتلك قدرا كبيرا من القوة والعزيمة، ولكنه عصبي ولا يخشى إطلاق عصبيته في وجه الآخرين. يدخل في أي تحدي يقابله مهما كان حجمه.
جسد فى فيلم (الصرخة) شخصية شاب يعاني الصمم والبكم، يقع فريسة استغلال زوجة انتهازية (نهلة سلامة) وتسلط باحثة فى مجال مرضه (معالى زايد) تحاول مراودته عن نفسه فيأبي، فلا يكون منها الا ان تتهمة بمحاولة اغتصابها فينتقم منها بمساعدة زملاؤه، من خلال تحويلها هى ومن وقف معها ضده زوراً لمصابين بالصمم هم الأخرين.
مولود برج الثور تعابيره توحي بأنه مخلوق بارع وواثق من نفسه ومن قوته وحسن درايته للأمور.يجد متعة عظيمة متى قام بالعمل الذي يرغب فيه.حياته حافلة بالانجازلت المختارة.محيطه العملي مشجع والاجواء فعالة.تزداد حيويته مع مرور الايام.يتمتع بقسط وافر من الجاذبية.
صرخة (نور) فى (الصرخة) تكشف كيف يهاجم المجتمع ابناؤه المرضى، وهى صرخة لا يضاهيها سوي صرخته الأخيرة فى فيلم (سواق الأتوبيس) عام 1982 والذى يكشف كيف يمكن لسياسات الانفتاح ان تودي بالسلام والاستقرار النفسى للمواطنين فى مصر.. يستعرض الفيلم قصة المواطن المطحون (حسن) والذى يعمل كسائق لأحد الحافلات الحكومية فى مصر، ويضطر للعمل كسائق سيارة اجرة بعد انتهاء مناوبته الحكومية ليستطيع انقاذ والده من عثرة مالية ضخمة، بينما يقف اخوته موقف المتفرج من الأزمة التى تطيح بالعائلة.
قام الشريف بدور البطولة فى رائعة يوسف شاهين (حدوته مصرية) 1982 من خلال تجسيد دور (يحي شكري مراد) الاسم المشهور فى سيرة يوسف شاهين الذاتية، ويستعرض الفيلم بشكل وجودي محاكمة تجري داخل جسد المخرج الشهير.. المحاكمة التى يحاكم فيها (شاهين الصغير) افراد عائلته، مهدداً اياهم بقتل (يحي) بالذبحة الصدرية اذا رفضوا الامتثال للمحاكمة.
حقق الفيلم نجاحاً نقدياً كبيراً، كما انه الفيلم الوحيد الذى تم من خلاله تصوير كوكب الشرق ام كلثوم وهى تغني بالألوان الطبيعية وعرض الفيلم مؤخراً ضمن مبادرة (زاوية) الفنية بسينما اوديون فى مصر.
يعتبر رجل الثور أيضا من الشخصيات العنيدة خاصة عندما يتعلق الأمر باتخاذ القرارات. وبشكل عام، فهو صبور ومخلص لعلمه
شارك (الشريف) فى العام نفسه فى بطولة فيلم العار، وهو من الافلام التى تنتمي لحقبة افلام الثمانينات فى مصر حيث كانت الافلام تبدأ او تنتهي بأية قرأنية او أبيات من الشعر، وكان يشارك العديد من نجوم الصف الأول فى بطولتها مثل فيلم (الكيف) و (العار) وغيرها من الافلام.
يحكي الفيلم عن مجموعة من الاشقاء يشغلون مراكز مرموقة فى المجتمع، يفاجأ الجميع بعد وفاة والدهم بمعرفة مصدر الثروة الحقيقي للأب.. انها تجارة المخدرات الملعونة، والتى تجرهم جميعاً لانجاز عملية اخيرة ليحصلوا جميعا على الربح، لكن التجارة الحرام تجر الأخوة لمستنقعات الأجرام ومنحدرات العار.
شارك فى بطولة الفيلم الفنان محمود عبد العزيز والفنان حسين فهمي، وحصد الفيلم جائزة الإخراج في مهرجان مانيلا السينمائي الدولي بالأضافة الى ثلاث جوائز في مهرجان جمعية الفيلم السنوي وهي جائزة أفضل فيلم وجائزة أفضل إخراج وجائزة أفضل سيناريو.
سجلت الكاميرات فيما بعد لقاء نادراً بين العمالقة الثلاثة نور الشريف ومحمود عبد العزيز وأحمد زكي برعاية الفنان سمير صبري.. نلاحظ فى اللقاء حالة الحب الحقيقية بين النجوم الكبار، وكيف يمكن للنجومية الحقيقية الا تطغي على العلاقات الشخصية القوية بين نجوم هذا الزمان. ان هذا الفيديو النادر لا يجعلنا نتحسر على خسارة نجومنا الكبار فحسب، بل نتحسر على جيل كامل من العلاقات الأنسانية بدأ فى الانحدار
ومن الافلام التى سببت ازمة كبيرة فى حياة (نور الشريف) كان فيلم (ناجي العلي) والذى قدمه عام 1992 ومن سيناريو بشير الديك واخراج عاطف الطيب.. وتعرض الفيلم لهجوم مصري كبير بسبب تجسيد الفيلم لحياة فنان كاريكاتير فلسطينيي معارض لاتفاقية السلام المصرية الاسرائيلية، والتى كانت محط انظار واهتمام الحياة السياسية المصرية بشقيها الرسمي والشعبي.
يحكي نور الشريف فى مقطع فيديو كيف كان الفنان سمير صبري هو الوحيد الذى يسأل عليه خلال أزمته وحملة المقاطعة التى تم شنها ضده.. لم يستطع النجم منع نفسه من البكاء عند تذكر هذا الموقف
كان نور الشريف من النجوم المؤمنين بضرورة مشاركة الفنانين الشباب اعمالها وافلامهم، والانفتاح على التجارب السينمائية الاكثر حداثة وطزاجة، فشارك الفنانة مني زكي بطولة فيلم دم الغزال عام 2005 فى دراما سياسية تحمل الكثير من الاسقاطات على الواقع السياسى والاجتماعي المصري، والعلاقة المعقدة بين السلطة والمتشديين دينيا فى مصر، بالاضافة لمشاركته البارزة فى فيلم (مسجون ترانزيت) مع الفنان الشاب احمد عز وغيرها من الافلام
ولم تمنعه المشاركة فى افلام الشباب من المشاركة فى الاعمال الملحمية فى السينما المصرية، وهى الافلام الحديثة التى قام ببطولتها عدد من النجوم الكبار مثل فيلم (عمارة يعقبوبيان) عن قصة الاديب العالمي علاء الاسواني التى تحمل نفس الاسم ومن بطولة عادل امام وهند صبري وكوبة من المع نجوم مصر انذاك والتى تحكي عن التغير المجتمعي فى مصر فى حقبة ما بعد ثورة يوليو 1952 او فيلم (ليلة البيبي دول) مع محمود عبد العزيز والذى قام فيه بدور الارهابى (عوضين)، لكن هذا الفيلم لم يحقق النجاح المرجي منه لضعف السيناريو وسطحية ومباشرة القصة المقدمة على الرغم من محاولتها التطرق للعديد من القضايا السياسية والاجتماعية فى مصر والعالم.
لم يتوقف ابداع (الشريف) عند السينما فحسب، بل انطلق لأفاق الدراما التليفزيونية ليقدم مجموعة من المسلسلات الخالدة فى وجدان التليفزيون المصري حتي الأن.. منها مسلسل (عمر بن عبد العزيز) 1994 ومسلسل الثعلب المستوحي من ملفات المخابرات المصرية عن عملية حقيقية.
لكن المسلسل الاشهر والاكثر قوة وتاثيرا فى الجماهير، كان مسلسل (لن اعيش فى جلباب ابى) عن قصة احسان عبد القدوس بنفس الاسم، والذى يحكي عن رحلة رجل عصامي (عبد الغفور البرعي) والذى يبني نفسه بنفسه من الصفر وحتي قمة عالم الاعمال والتجارة فى مصر، وعلاقته بابناؤه وابنه الذكر الوحيد (محمد رياض).
ومن (لن اعيش فى جلباب ابي) الى (هارون الرشيد) المسلسل الذى قدمه فى 1997 وحقق نجاحاً كبيراً، كما قدم الشريف ايضاً ثلاثية مسلسل الدالى والذى جسد فيها شخصية (سعد الدالى) رجل الاعمال الناجح والذى يقع فريسة محاولات بعض الجهات الداخلية والخارجية افساد اعماله وانهاء شخصيته المالية فى السوق، كما قدم ايضا شخصية مثيرة للجدل لرجل مزواج فى مسلسل (عائلة الحاج متولي) والذى اثار جدلاً كبيراً فى مصر عندما عُرض فى رمضان 2001
وانتشر مع خبر الوفاة مقطع فيديو يصور بكاء نور الشريف فى احدي حفلات تكريمه، ما جعل الامر يتحول لشبه حفلة تأبين لنجم وهو لايزال على قيد الحياة.. ان النجوم الشباب الذين يحدثوننا اليوم عن النجومية والثراء، هم بالأساس تلاميذ مخلصين فى مدرسة (نور الشريف).. وهذا ما يوضحه الفيديو التالى
وتسابق نجوم الفن على عزاء الراحل نور الشريف من خلال التصريحات لوكالات الأنباء او حتي عبر حساباتهم الرسمية على تويتر
ان سلسلة العطاء التى قدمها نور الشريف للمجتمع الفني المصري والعربي لا تقدر بثمن، والتركة العظيمة التى تركها وراؤه لن تفني وستظل كنزا من الاحترام الفني والمثال الحي لعطاء الفنان الذى لا ينقطع لفنه وجمهوره، ولا يسعنا فى نهاية التقرير سوي عرض الحلقة الاخيرة من مسلسل (عمر بن عبد العزيز) كما اوصي الفقيد ان يعرض على الشاشات عند وفاته.