وقائع مجتمع “خارج الخدمه”
على الرغم من الفكرة الخارجية السريعة التي قد يخرج بها المشاهد عن فيلم مثل (خارج الخدمه) كفيلم يحكي عن بعض المشكلات الشخصية لأبطاله، وكيف بضعهم القدر أمام انفسهم والأخرين فى مواقف مختلفة ومتفاوتة التأثير، مما يلقي بظلال قاتمة على مصائرهم المحددة سلفا كما يوحي الفيلم، الا اننى من خلال مشاهدة عميقة للفيلم، خرجت بتصور قد يختلف عن التصور السريع، فالفيلم لا يكتفى بالتعرض لأبطاله على وجه الخصوص، بل يتجاوز الحديث عنهم ليحكي عن وقائع مجتمع كامل، يحاول التشبث بموقعه المتوسط خارج افريز الزمن، على الرغم من الركلات التى يتلقاها، ليكون (خارج الخدمة).
القصة.
يبدأ الفيلم بمشاهد افتتاحية لـ(سعيد) الشاب المصري الذى يعيش تحت خط الفقر، يجاهد ليمر يومه دون التعرض للأهانة، ويهرب طوال الوقت من الدائنين، ما يدفعه لأدمان المخدرات –كل أنواع المخدرات- ليهرب أيضا من نفسه وواقعه الذى لا يبشر بخير. من منا لم يقابل سعيداً فى حياته الخاصة؟ من منا لم يكن سعيد بشكل أو بأخر؟!
فى محاولة لألتقاط بعض اللقيمات، وبعض التحف التى يبيعها بثمن بخس، يعثر (سعيد) على ذاكرة الكترونية (فلاش ميموري) مخزن عليها ملف فيديو يظهر واقعة قتل السيدة التى تسكن فى الشارع المجاور له لطفلة صغيرة. لقد عثر (سعيد) للتو على كنز صغير، سيمكنه من ابتزاز السيدة (شيرين رضا) مقابل بضعة الاف من الجنيهات تكفى سداد ديونه التى يطارده بسببها بلطجي الحي (محمد فاروق).
الصدام.
يقف (سعيد) امام باب منزل السيدة مترددا، وقبل أن يقرع الباب تفاجئه القاتلة بالوقوف أمامه بشحمها ولحمها، هنا فقط ينتهز الفرصة ويدخل المنزل، يُجبرها على مشاهدة الفيديو الذى تتورط فيه بجريمة القتل، ويبتزها بقسوة فتواجه الابتزاز برفض تام فيحاول ارغامها على الرضوخ له، حينها فقط يتطور المشهد من مشهد ابتزاز لمشهد اغتصاب، تبرع فيه الكاميرا فى بيان الفعل دون أن تصوره بشكل مباشر فج، وهو درس مثالى لصانعي سينما الصدمة الذين يملئون الدنيا ضجيجا فى مصر بضرورة تقديم المشاهد الفجة كما هى دون اهتمام حقيقي بأعمار المتابعين وتأثير المشاهد على نفسيتهم.
الصدام بين (سعيد) والمرأة الخمسينية –على اقصى تقدير- ينتهي بنهاية غريبة، عندما تلملم المرأة ثيابها وتعطي (سعيد) بعض النقود وتطلب منه شراء بعض المخدرات لها! الأمر الذى يذهله ويذهل معه المشاهدين فى أن واحد، لكن كل هذا يبدو منطقيا فى مجتمع يخرج من الخدمة المنطقية لأفراده، ويسبح فى خيالات من الأحلام المريضة المشوهة التى تقتحم المجتمع المصري يوماُ بعد يوم.
المخدرات.
يأخذنا الفيلم بعد ذلك فى رحلة طويلة من استخدام المخدرات.. كل المخدرات.. بداية من البانجو –وهو مخدر رخيص الثمن خطير المفعول- تتعاطاه الفئة الفقيرة فى مصر، ونهاية بالـ(بيسة) التى تعتبر أحد ارخص أنواع المخدرات البيضاء فى مصر، مرورا بـ(الحشيش) وهو المخدر الأكثر انتشارا بين كافة الطبقات الاجتماعية والمادية فى مصر، رحلة لا تكتفى فقط بعرض طرق البيع وقواعد المساومة، بل تتجاوزها للحديث عن طرق التعاطي وغيبوبة السُكر وحتي النتائج الغير متوقعة التى قد تواجه المتعاطين. الخروج من الخدمة يستلزم تعاطي المخدرات، هذا هو الخط الأساسى للأحداث كما يوضح الفيلم.
الأخراج.
تميز أخراج الفيلم بأظهار الحقائق كما هى، شتائم الشارع كما هى، مخدرات الشارع كما هى، شجارات الشارع كما هى، حتي السبة القبيحة التى توجهها (ِشيرين رضا) للرئيس المعزول (محمد مرسي) اثناء احد خطاباته، وعلى الرغم من ايقاف الصوت والاكتفاء بالموسيقي التصويرية، الا ان حركة فمها كانت تقول كل شىء، الفيلم ها هنا لا يحاول اللف او الدوران، هذا هو الشارع (خارج الخدمة) بكل تفاصيله، فاقبل بها او ارطم رأسك فى أقرب حائط وعش فى (يوتوبيا) خاصة بك.
الموسيقي التصويرية
اعتمدت الموسيقي التصويرية على البرامج الحوارية المصرية، باكثر ما اعتمدت على الوتريات! فنصف موسيقي الفيلم على وجه التقريب هى عبارة عن عبارات مقتطفة من اشهر البرامج الحوارية المصرية فى الأعوام المنصرمة، بداية بـ(ريم ماجد) و (العاشرة مساء) وغيرها من البرامج والقنوات التى يقضى المواطن المصري النصف الثاني من يومه امامها، فى جرعة عالية ومكثفة من غسيل الدماغ والضرب بيد حديدية على عقل المواطن ليتخذ موقعه (خارج الخدمة).
النهاية
مع تكرار وقائع التهديد والابتزاز ثم الاغتصاب فالرضوخ، تتكون علاقة مازوخية صعبة الوصف بين الضحية والجلاد، علاقة (أحمد الفيشاوي) بـ(شيرين رضا) تتدحرج من قمة الرفض الى قمة القبول بتدريج غير منطقى، لا يحدث الا فى الحياة الواقعية بكل ما تحتويه من عدم تجانس وقلة احتشام.
وما بين دخان السجائر المحشوة تبدأ علاقة وهمية تماما كالدخان فى التطور، حتي تصل للذروة حين يكتشف (سعيد) ان السيدة التى ياول ابتزازها من بداية الفيلم لم تقتل الفتاة الصغيرة حقا، بل كان مشهداً تمثيلياً تسرب من ذاكرة الكاميرا لذاكرة الـ(فلاش ميموري) ومن ثم الى ايدي (سعيد)، وهو المخرج الذى بدا لنا مضحكا وغير متسقا مع الواقعية التى يتعرض بها الفيلم للأحداث باستمرار، وهى سقطة اخراجية كبري خرجت بالفيلم عن مصاف المهرجانات والجوائز، وان كان الفيلم فى مجمله اعاد اكتشاف الفنان احمد الفيشاوي، واجبره على تقديم افضل أداء له فى تاريخه الفني الحافل بأعمال أضعف واقل ثقلا وتأثيرا فى المشاهد بشكل عام.
وختاما
كان من الممكن ان يكون (خارج الخدمه) فيلما افضل، لو اهتم القائمين عليه ببعض الرتوش الصغيرة، لكن العمل فى مجمله يعتبر عملا قويا ومغرقا فى الواقع المصري المندفع بسرعة الضوء ليكون مجتمعا.. خارج الخدمه.