“القاضى” : المحامي والقاضى…الأبن والأب!
على الرغم من غزارة الانتاج الهوليودي السينمائى، وضخامة الانتاج، والتفوق في مجال الابهار البصري والمؤثرات الخاصة والخدع السينمائية، الا ان المستوي الفني لمنتجات هوليود السينمائية، يتناسب عكسيا مع الزيادة المطردة للافلام التي تنتجها هوليود سنويا، لذا فان الاحتفاء بفيلم (القاضي) أوThe judge
يأتي قويا ومسترسلا، تماما كقوة الفيلم وقدرته علي تحريك مشاعر المشاهدين والتلاعب بعواطفهم تلاعبا محمودا وتناغما مشهودا
يبدأ الفيلم بمشاهد افتتاحية للمحامي المخضرم (هانك بالمر) الذي قام بدوره النجم (روبرت داوني) ، نعرف من المشهد الاولي مدي براعته في مجال المحاماة، وقدرته الفذة على التلاعب بالقانون، وغياب ضميره فى مقابل زيادة أتعابه، انه عالم التقاضي الامريكي حيث القانون هو اسم اللعبة، وحيث التأثير على هيئة المحلفين والتلاعب بمشاعر القاضي فن يجيده (بالمر) كأنما وُلد مُتقنا له!
يضطر (بالمر) للاعتذار عن احدي جلساته ليسافر لبلدته الصغيرة حيث نشأ، بعدما يتلقي اتصالا هاتفيا يخبره بوفاة والدته، تاركاً وراؤه زواجا علي حافة الانهيار، وطفلة صغيرة تعاني اهمال والدها لها علي حساب عمله،ينطلق (هانك) بسيارته الفارهة قاطعا الطريق القريب جغرافيا، والبعيد علي صعيد الذكريات الأليمة
حياة بالمر تُعتبر تجسيدا حياً للمجتمع الامريكي، بريق لامع من الخارج، مشوه من الداخل، فالمتطلع لحياة بالمر من الخارج سيجدها علي حسب وصفه : “سيارة فارهة في جراج خاص لفيلا ضخمة، وزوجة ذات قوام مذهل وابنة صغيرة لطيفة” لكن النظرة لحياة (بالمر) عن كثب، تجعلنا ندرك مدي زيف هذه الحياة وتعفنها الداخلي علي حساب بريقها الخارجي!
يصل (هانك) لمنزله القديم، يفتح صندوق الذكريات الدفين مع فتحه للتابوت حيث ترقد والدته، يبدأ لم شمل الأسرة مجددا استعداداً لاجراءات الجنازة، وهنا نبدأ في التعرف علي اسرة (هانك) عن قرب، الأخ الأكبر (جيلن) والذي يعاني اعاقة في يده حرمته من احتراف رياضة البيسبول التي يبرع فيها، وقام بالدور الفنان (فينسنت دوفوريو) وقام بشخصية الأخ الأصغر (جيمي سترونج) في شخصية (ديل بالمر) والذي يعاني هو الاخر من اعاقة ذهنية تمنعه من التواصل الطبيعي مع المجتمع.
يترك لنا المخرج (ديفيد دوبكن) مفجأة أخيرة تتمثل في شخصية الأب، القاضي الحازم (جوزف بالمر) وقام باداء الشخصية العبقري العجوز(روبرت دوفال) فى واحداً من أفضل أدواره علي الاطلاق، القاضي جوزف يفصل في النزاعات القانونية في المدينة الصغيرة، ويمثل دائماً رمزاً ابديا للعدالة وسيطرة دولة القانون؟ لكن السؤال الذي يطرحه الفيلم، هل معني ان يكون الانسان قاضيا عادلاً، هل يعني هذا انه سيكون اباً رائعاً بالضرورة؟
الاجابة التي نعرفها من المشاهد الاولي للقاء الاب والابن تخبرنا باختصار ان لا! فالقاضي بالمر رجل غريب الاطوار حاد الطباع نافذ الكلمة، لا نقاش معه ولا تفاوض، القاضي بالمر يمارس عمله كقاضي فى المنزل كالمحكمة! ويعامل ابناؤه كمتهمين حتي تثبت ادانتهم! هذا ما نكتشفه في المشاهد الاولي لبالمر الأب.
تنتهي اجراءات الجنازة بشجار حتمي بين هانك ووالده، يترك هانك علي اثرها المنزل ويستعد لمغادرة البلدة بالكامل للأبد
“لم يكن علي المجيء هنا! انا راحل الي الأبد”
هكذا صرخ وهو يغادر المنزل بلا رجعة
الا ان اتصالا هاتفيا ينتزع بالمر الابن انتزاعا من مقعده بالطائرة، ويجبره علي العودة للمنزل مجددا، فالقاضي بالمر متهم في قضية قتل، وجهت له الشرطة تهمة دهس متهم قديم كان علي خلاف مع القاضي، دماء الضحية تغطي مقدمة سيارة القاضي، وكاميرات المراقبة تثبت التهمة ولا تنفيها، والقاضي صامت لا ينفي الواقعة ولا يُثبتها، يتعلل بالنسيان التام للفترة الزمنية التي وقعت فيها الحادثة!
يالمصيبتك يا هانك! اي سماء القت بك من الجنة للجحيم، ومن اقتلعك من حياتك وعملك لتنقذ اباك من جريمة قتل من الدرجة الأولي؟! وهل يقبل العجوز المتعجرف أن يقف متهما يدافع عنه ابنه، بعدما كان قاضيا مهيب الركن عظيم الهيبة؟!
تتزاحم الاسئلة في عقل هانك، تتوتر العلاقة اكثر فاكثر بينه وبين القاضي، الذي يصمم علي اسناد القضية لمحامي مبتديء لا يفقه شيئا، ينهار المحامي في الجلسة الثانية ليتولي هانك رسميا الدفاع عن والده بعد صراع مرير
“انت أسوأ موكل في التاريخ”
هكذا يهتف هانك بحنق لوالده، ويبدأ بدراسة القضية عن كثب، ويكتشف اصابة والده بسرطان القولون في مرحلة متقدمة، هذا اذن سبب نسيانه للعديد من الاحداث كواقعة الجريمة، لكن القاضي يرفض الاعتراف بحقيقة مرضه امام المحكمة حتي لا يطعن المتهمين الذين حوكموا امامه بعدم صلاحيته العمل في القضاء، تفشل مساعي هانك لاقناع والده فيضطر لمكاشفته بالحقيقة امام هيئة المحكمة والمحلفين فيعترف القاضي ان نسيانه ناتج عن مرض السرطان الذي يعالج منه سرا خوفا من انهيار هيبته كقاضي وتشكيك المتهمين فى احكامه للسنوات الاخيرة.
تتغير المعاملة بين بالمر الاب والابن مع مرور الوقت، تحتشد جهودهما الانسانية والعملية في بوتقة واحدة، ثم تنفجر مشكلة جديدة بينهما فينفجر الابن ساخطا من جديد، لم ينس عدم تشجيع والده له، لم ينس عدم حضوره حفل تخرجه بكلية الحقوق، اما بالمر الاب فكان له رايا اخراً، لم ينس تسبب ابنه هانك باعاقة لاخية، تلك التي اجبرته على التخلى عن حلمه بممارسة رياضة البيسبول، هذه الحقيقة التي نكتشفها مع الربع الاخير فى احداث الفيلم.
ننتقل بعدها لمشهد من أفضل مشاهد السينما فى 2014، على الرغم من انه قد يسبب الغثيان للبعض، الأب العجوز المحتضر لا يستطيع الدخول لدورة المياة فى الوقت المناسب، فيبلل نفسه، ويبدأ الأبن (هانك) فى غسل جسده، فى مشهد متميز عن كيفية تغير العلاقة بشكل جذري بين الأب والأبن.
تصدر المحكمة حكمها بسجن القاضي بالمر لمدة أربعة سنوات، يبكي (هانك) ويخبر الجميع أنه بذل قصاري جهده، ثم يخرج الأب بعد ستة أشهر بسبب ظروف انسانية، يقضي بضعة أيام مع ابنه، ثم تُقبض روحه وهو جالس مع (هانك) فى قارب صغير، نفس الذكري الوحيدة التي كان الأخير يذكرها لوالده، وهو يعلمه الصيد صغيرا.
تنتهي احداث الفيلم ولا ينتهي التفكير داخلنا، كيف تتغير شخصية (هانك) مع مرور الوقت، وكيف يتمسك القاضي بهيبته وصحة أحكامه، حتي لو أتي ذللك على حساب حريته واتهامه بقضية قتل؟! والى اى مدي من الممكن ان تذهب العلاقة بين الأب والأبن، فى زمن تحكمه المصالح والقوانين و…. أحكام القاضي.
الأداء الفني للبطل (روبرت داوني جونيور) كان أكثر من رائع، وأخرجه من مرحله أداء أفلام الأكشن من نوعية The Iron man وخلافها، لمرحلة جديدة ومختلفة كليا، ونتوقع أن يكون الفيلم أنفتاحة جديدة ومختلفة بالنسبة له.
أما العجوز (روبرت دوفال)، وعلى الرغم من عمره الدائر فى فلك الثمانينات، فقد قدم أداء هو الأبرز والأكثر قوة فى الفيلم بالكامل، وأكد (دوفال) من خلال دور القاضى (بالمر)، أن التقدم فى السن يكسب الممثل بُعدا خفيا من الاحترافية قد يستطيع أن يصل بأداؤه حينها لحدود الكمال.
(بيلي بوب ثورنتون) أو المحامي (دوايت ديكهام) لم يأخذ مساحة الدور الكافية لعرض خبرته، كنت أتوقع أن يصول ويجول فى عدة مشاهد ويكون خصما قويا لـ(جونيور)، الا ان السيناريو ومساحة الدور لم يعطيانه الوقت الكافى لاستثمار موهبته التمثيلية.
ولا يسعنا فى النهاية سوي توجيه التحية للمخرج (ديفيد دوبكن) على فيلم (القاضى)، وأن نفتح مساحة التعليقات لرأيكم فى الفيلم والأحداث.