Oppenheimer : شيطان الموت يحصل على محاكمة جديدة في السينما
مين قال أن كل الأحكام بتصدر في قاعة المحكمة فقط؟ مين قال أن القاضي والمحلفين هم الوحيدين اللي يملكوا حق إدانة المتهم؟ ومين قال أن الترافع عن المتهم حق أصيل للمحامي فقط؟ السينما هي كمان قاعة محاكمة، ومخرجي الأفلام محامين بيقدموا حيثيات البراءة أو الإدانة. والجمهور، هم القضاة اللي عليهم إصدار الحُكم. وفيلم Oppenheimer هو أكبر شاهد على صدق كلامنا.
لو حبينا نتكلم عن فيلم Oppenheimer، نقدر نتكلم عنه كفيلم بيصنعه أسطورة سينمائية بحجم المخرج كريستوفر نولان، صاحب الأعمال اللي أقل ما توصف به أنها مُدهشة، زي ثلاثية أفلام باتمان، أو Inception أو Interstellar مع فريق عمل ملحمي، وتكنولوجيا تصوير تُقدم لأول مرة. ونقدر كمان ننسى كل العناصر دي، ونتكلم عن الفيلم كفيلم عادي، الهدف الأهم له هو تقديم تسلية مناسبة للجمهور مع سرد لقصة حقيقية عن كواليس صناعة أول قنبلة نووية في التاريخ.
طريقة نظرتك للفيلم هي اللي هاتحدد تقييمك له، ومدى إعجابك بيه، لأن مع رصدنا لردود أفعال المشاهدين خارج القاعة أو على السوشيال ميديا، كان من الواضح أن Oppenheimer من الأفلام اللي مافيهاش حلول وسط. ياتحبها وتقع في غرامها من أول مشهد لأخر مشهد، يا تكره اللحظة اللي دخلت فيها الفيلم، وتتحسر على كل جنيه دفعته في تذكرة IMAX علشان تتفرج على فيلم مكانش يستحق المشاهدة على إمكانيات أيماكس الجبارة.
خلونا نتكلم كفنيين. ونقول أننا هانتكلم عن الفيلم كفيلم عادي، وننسى شوية الهالة اللي حوالين إنتاجه، لكن هانستعيد بعض الهالة دي لما نتكلم عن بعض فنيات الفيلم لأنها تستحق – من أجل الإنصاف- أننا نفكر نفسنا ونفكركم، إننا أمام عمل سينمائي بيصنعه صفوة المشهد السينمائي الهوليودي.
لما قرر كريستوفر نولان، أنه يقدم فيلم عن أوبنهايمر، العالم الأمريكي الفذ، اللي ساعد أمريكا أنها تنتج أول سلاح نووي في التاريخ، كان عارف كويس أن قصة الفيلم معروفة تماماً من البداية للنهاية، ولأنه مش من نوعية المخرجين الفانتازيين اللي ممكن يغيروا التاريخ تماما في أعمالهم زي ما عمل كوينتن تارنتينو المخرج المجنون وغير تاريخ الحرب العالمية الثانية في Inglourious Basterds أو يتلاعب بتاريخ جريمة قتل حقيقية حصلت في هوليود في فيلمه Once Upon a Time… in Hollywood. بالتالي كانت عوامل الإبهار في طبخة نولان مُهددة بالفشل، بالتالي لجأ لفكرة أن الفيلم يتم تصويره بالكامل بتقنيات أيماكس، بالتالي يوعد المُشاهد بتجربة غامرة ومختلفة وجديدة تماما، خاصة مع انتظار المشاهدين لمشهد التفجير النووي، اللي أعلن نولان برضو أنه تم تنفيذه بدون خدع جرافيك.
لكن الطباخ الشاطر لما يهتم بالتتبيلة زيادة عن اللازم، ده ممكن يأدي لنتيجة عكسية، وده اللي حصل لما المشاهدين دخلوا الفيلم وحجزوا قاعات أيماكس لأسابيع وأسابيع مُقبلة، لدرجة أننا لقينا صعوبة في الحصول على مقعد واحد في مكان مناسب في القاعة. معظم المشاهدين حسوا بإحباط شديد وهم بيتفرجوا في النهاية على فيلم تقليدي، لأن عوامل القوة في التصوير كانت بالأساس في اختيار كادرات توضح مشاعر الأبطال، وده اللي حسيناه في التركيز على كادرات ضيقة توضح نظرات عين اوبنهايمر اللي قام بدوره كيليان مورفي المُلتاعة، بعد ما أدرك حقيقة أنه تحول لملاك موت تسبب في موت ألاف البشر بطريقة مُرعبة.
وبمجرد ما شعر المشاهدين أنهم أمام تجربة بصرية عادية، مش زي فيلم Avatar مثلا، لقوا نفسهم أمام ٣ ساعات من الملل، لأنهم ببساطة عارفين الأحداث! كلنا عارفين أن أمريكا هاتنجح في تفجير القنبلة، وهاتنتصر في الحرب العالمية الثانية، وهاتتحول لقوة عظمى.. فين الإبهار؟!
علشان كده احنا فاهمين تماماً حالة الإحباط الشديد عند قطاع لا يستهان بيه من الجمهور، بالإضافة لقطاع تاني هو الشباب اللي داخل الفيلم ومش عارفين كتير عن الأحداث، بالتالي الفيلم بالنسبة لهم كان سلسلة لا تنتهي من المُحاكمات والسجالات القائمة على الحوارات الطويلة بالمقام الأول، والاعتماد على السجالات التمثيلية المُتقنة أكتر من الاعتماد على الحركة المستمرة وعناصر الابهار البصري المُعتادة من فيلم حظى بدعاية غير تقليدية لفترة زمنية طويلة.
السؤال هنا.. مين اللي ممكن يعجبه فيلم Oppenheimer طالما اللي متوقعين القصة مش عاجبهم واللي مش عارفين حاجه عنها مش عاجبهم؟!
الإجابة هي: الفيلم هايعجب الناس اللي بتحب طرق السرد الغير نمطية، ودي حيلة عارفينها من كل أعمال كريستوفر نولان تقريبا، هي حبه للتلاعب بالخط الزمني timeline بتاع الأحداث، لكن في Oppenheimer مش بس بنشوف تلاعب بالخط الزمني، لكن تلاعب بمنظور الحكي نفسه، يعني المشاهد اللي بالأبيض وأسود بتعبر عن منظور أحد الأبطال، بينما المشاهد المُلونة بتعبر عن منظور بطل الفيلم نفسه. وبكده نولان مش بس بيلعب بالزمن، هو كمان بيلعب بمنظور الأحداث نفسه.
الفيلم هايعجب الناس اللي عاوزه تتفرج على أداء تمثيلي مُختلف، أداء مش معتمد على الصوت العالي أو الحركات الانفعالية، بقدر اعتماده على نظرات العين، ولغة الجسد، والمزج الغير تقليدي بين المؤثرات الصوتية مع حركة الكاميرا، زي ما بنشوف في مشاهد تأنيب ضمير أوبنهايمر له، وازاي شايف المجتمع الأمريكي بيتحول من ناس عاوزه تكسب معركة حياة أو موت، لمتعطشين للدماء وراغبين في التفوق على الدول التانيه مهما كان الثمن.
الفيلم هايعجب الناس اللي عاوزه تفكر في فلسفة الدنيا، وازاي شخص ممكن يتحول من بطل قومي، لجاسوس في لحظة، لمجرد رغبته في كبح جنون العظمة وهوس التفوق النووي عند دولة غير مُستعدة للتحول من دولة عادية لقائدة العالم بالكامل.
ولو متخيل، أن المشاهدين هايخرجوا من الفيلم منقسمين إما محبين أو كارهين للفيلم بدون أي نقطة تلاقي، في رأينا أن فيه أكتر من نقطة هايتفق عليها معظم جمهور الفيلم، أولها هي أن الفيلم لا يستحق المشاهدة في قاعة ايماكس، وأن أي شاشة سينما تقليدية – أو حتى تليفزيون ضخم- هاتكون مُناسبة جدا، والنقطة الثانية هي أن الفيلم كان ممكن يتم اختصار حوالي ٤٥ دقيقة من وقته بدون إخلال بالتفاصيل. والنقطة الثالثة، هي أن مشهد التفجير النووي كان فعلا مشهد غير تقليدي، وصعب وصفه بكلمات، وفيه براعة في التخطيط والتنفيذ ميقدرش عليها غير مخرج بحجم نولان.
النقطة الأخيرة اللي مانعتقدش أن عليها جدال، إن إلقاء قنبلتين ذريتين على مدينتين أمنتين فيهم عدد ضخم من المدنيين العُزل، هو عمل أحمق حقير، يستحق الإدانة، هو وكل واحد وقف وراءه أو أيده، مهما كانت المبررات، ومع كامل احترامنا لمحاولات البعض غسل ايدي صاحب العقل اللي وقف وراء صناعة السلاح المُرعب وعدم تحميله نتيجة أفعاله، لمجرد أن ضميره أنبه وأنه قرر عدم الاستمرار في صناعة مهزلة أفجع.