مقالات التقرير

The Imitation Game : كيف ضربت أنجلترا ألمانيا عبر موجات الاسلكي؟!

قراءة سهلة

فى كل مرة نجلس فيها الى أجهزة الكمبيوتر الحديثة التي نحملها أينما ذهبنا، يجب أن نتذكر اسم (الان تورنج) Alan Turing، اسم العالم البريطاني الذى وضع النواة الأولى لأول ألة قادرة على التفكير واتخاذ القرارات ومساعدة البشر. لم يكن الطريق سهلا، لم يكن التحدي هينا، والطريق لأول حاسب الى فى التاريخ، بدأ بالفعل من أحد الثكنات العسكرية السرية الخاضعة للمكتب السادس البريطاني، المعروف اختصارا بـ…المخابرات البريطانية.

الزمان: بداية الحرب العالمية الثانية.

المكان : مقر سري للمخابرات البريطانية.

الحدث: البريطانيين  فى مأزق حقيقي، الهجمات الألمانية بالغواصات تحقق نجاحا ساحقا على الصعيد العسكري، الرسائل المشفرة تطير فى الهواء، تلتفطها أذان المخابرات البريطانية، لكن عقلها لا يستطيع فك شفرتها، الشفرة جديدة ومعقدة، وغير قابلة للفك أو التحليل بأى حال من الأحوال، طوربيدات الغواصات تحيل المياة الدولية جحيما على رأس السفن العسكرية والمدنية على حد سواء، ثلاثة رجال يقتلون كل دقيقة، وعلماء الشفرة الأنجليز غارقين حتي أذانهم فى محاولة فك شفرة جهاز (انيجما) Enigma الالماني، القادر على تشفير أى رسالة عادية، وفك تشفير اى رسالة بشكل عكسى.

بهذا المأزق يفتتح (مورتن تيلدم) Morten Tyldum فيلمه (لعبة المحاكاه) أو The Imitation Game، وهو واحد من الأفلام المنافسة بقوة على جائزة الأوسكار، والمستوحي من أحداث حقيقية دارت فى فترة الحرب العالمية الثانية، اتون الجحيم الذى انفتح على العالم من أقصاه الى اقصاه.

يرسم (بنديكت كيمبرباتش) Benedict Cumberbatch ملامح شخصية الان تورنج من البداية، عبقري متقد الذكاء، غريب الاطوار لا يتفهم الدعابات، بارد الطباع حاد القسمات، تتفاعل الافكار فى دماغه بسرعة تتجاوز سرعة الضوء، لا يكاد ينطق بجملة حتي يتبعها بأخري باسلوب ألى، يلتقى تورنج بالمسئول عن تجنيد العلماء الانجليز لمحاولة فك شفرة الانيجما، يخلو اللقاء الاول من الود، ويكاد ينتهي بطرد (تورنج).

– لقد حطمت الرقم القياسى فى أقصر مقابلة عمل فى الجيش البريطاني!

هكذا يهتف الجنرال الغاضب، مستدعيا السكرتيرة لتصحب تورنج للخارج، او للجحيم.. القائد لا يهتم، لكن تورنج ينطق بجملة تغير مسار الأحداث :

– انا رجل يعشق الأحاجي، انيجما هى الاحجية الاصعب فى التاريخ، وانا قادر على فك شفرتها!

يلتحق تورنج بمجموعة من العلماء الانجليز، متخصصين فى الرياضيات، يعشقون حل الالغاز المعقدة، يلتقون بألة انيجما المانية مسروقة للمرة الأولى، يكتشفون أنهم لو جندوا عشرة رجال لتجربة كل الاحتمالات الممكنة لفك شفرة رسالة واحدة، سيستغرقون ما يقارب المليون سنة! بينما احداثيات الشفرة تتغير مع دقات الثانية عشر مساء من كل ليلة. المهمة مستحيلة، والاضطراب يضرب الجميع باستثناء تورنج.

صورة لألة (انيجما) حقيقية

يتباري الجميع فى محاولة فك الشفرة، بينما ينبري تورنج على تصميم ألة قادرة على فك الشفرة

– انيجما ألة معقدة، ولا يستطيع أى عقل بشري هزيمتها منفردا، لا يهزم الألة سوي ألة مثلها.

يبدو طريقه معقدا بينما يحقق زملاءه بعض الانجازات المحدودة، يعيره احدهم بقدرتهم على فك بعض شفرات الرسائل، يخبرهم يثقة :

– حتي الساعة المعطلة تعطينا الوقت الصحيح مرتين يوميا! اسلوبى لا يتوقف عند الاستنتاجات، لكنه يتجاوزها لصنع اله تستطيع فك كل الشفرة، كل الوقت.

 لكن النجاح لا يحالف تورنج فى البداية، خاصة مع التعقيدات البيروقراطية، وطلبه لما يزيد عن مائة الف جنيه سترليني، ثروة ضخمة لدولة تكاد تتداعي تحت القصف البحري والجوي من الة الحرب الهتلرية المجنونة.

يتولى تورنج رئاسة القسم السري المشرف على ضرب (انيجما)، يطرد الكسالى ويعين بعض العلماء الجدد، هنا تظهر البطولة النسائية فى الفيلم (كيرا نايتلى) Keira Knightley فى دور عالمة الرياضيات الفاتنة التى تدخل حياة تورنج، مضفية لمستها الانثوية على الاحداث، تنجح فى كسب اهتمام (تورنج)، وتبدا فى مساعدته لانجاح جهازه الوليد الذى اطلق عليه اسم (كريستوفر) وهو اسم صديقه فى مرحلة الدراسة، والذى توفى بعد معاناة مع مرض السل -سرطان ذللك الزمان- اللذى ترك اثرا لا يمحي فى شخصية تورنج.

يعاني تورنج  الفشل مرة بعد اخري، ويبدأ الأصدقاء فى التناقص من حوله، لا يبدو ان (اللعبة المكلفة ذات المائة الف جنيه استرليني) كما وصفها احد القادة، لا يبدو انها تحقق اى فائدة، حتي صديقته الجديدة تقرر الرحيل استجابة لرغبة اهلها المتشددين، ويتم اكتشاف رسالة مشفرة من جاسوس مجهول فى قلب النظام الاكثر احكاما فى انجلترا، ضربات متعاقبة على راس تورنج، لا يمحيها سوي زواج سريع وغريب الاطوار من صديقته (جوان) يعقبها سهرة فى احد البارات، نكتشف من خلالها حقيقتان مرعبتان…

الأولى : تورنج مثلي جنسيا، ولا يكن اى مشاعر جسديه لزوجته الحديثه

الثانية : ان هناك احد ظباط الاتصال الألمان اللذين يتم تعقب رسائلهم، يبدا رسائله بنفس السلسلة من الارقام والحروف العشوائية، كنوع من الاهداء لاسم حبيبته، الامر الذى يقود تورنج لحل شفرة انيجما فى واحدة من افضل مشاهد السينما فى 2014

لا يجب ان يعمل الحاسب الالى (كريستوفر) لتحليل شفرة الرسالة كلها، يكفى ان يحلل جملة واحدة ويفك شفرتها، لينهار نظام (انيجما) بالكامل. لم تكن الجملة سوي كلمة (يحيا هتلر)، التى يتم تزييل كل الرسائل الالمانية المشفرة بها.

ينطلق الفريق العلمي للمقر السري، متجاهلين التعليمات الامنية المشددة ، ويبدا عمل (كريستوفر) لتحليل (انيجما) تحليلا صحيحا هذه المرة، لتنهار الشفرة الألمانية الاكثر تعقيدا فى العالم، فقط ليقع الفريق امام لغز جديد.

لن يتم ابلاغ السلطات البريطانية بكافة مواقع الغواصات الالمانية، حتي لا يشك الألمان فى انهيار شفرتهم، وبالتالى يقومون بتغيير كل شىء مجددا، يبدأ تورنج فى ابتكار اسلوب حاسوبى احصائى بحت، يقوم بحساب الحد الادني من العمليات العسكرية الناجحة التى يستلزم الفوز بها لتحقيق النصر ضد الألمان، مع السماح بهامش من العمليات الالمانية الناجحة، حتي لا يرتقى الشك لنفوس الألمان فيما يتعلق بأمان شفرتهم الحديدية التى اذابها (تورنج) للتو. انه السطر الاول فى برامج الحاسب الالكتروني اليوم!

على الرغم من الانجاز العسكري والعلمي الضخم الذي انجزه تورنج، الا انه تم توجيه تهمة الفعل الفاضح له، بعد انكشاف امر علاقاته الغرامية بالرجال، خيرته المحكمة بين البقاء فى السجن، او الاخصاء الكيميائى، فاختار الأخير حتي يبقى بالقرب من (كريتسوفر)، لم يستطع الصمود امام موجات الاكتئاب فوضع  حدا لحياته واختار الانتحار بهدوء فى 1954 بمادة السيانيد السامة، فقط لتكرمه صاحبة التاج البريطاني، بعد ستة عقود كاملة من النهاية المأسوفة لعالم لم يحصل على ما يستحق فى حياته.

زر الذهاب إلى الأعلى