مقالات التقرير

The Winter Diviner : رحلة البحث عن الماء… والذات! 

قراءة سهلة

يقول التاريخ أن معركة جاليبولي، هي معركة دارت في شبه الجزيرة التركية عام 1915م، خلال الحرب العالمية الأولى، حيث قامت قوات البريطانية والفرنسية مشتركة بمحاولة احتلال العاصمة العثمانية إسطنبول، لكن المحاولة باءت بالفشل، وقتل ماقُدّر عدده بحوالي 55 الف جندي من قوات التحالف (بريطانيا، أستراليا, نيوزيلندا, فرنسا)، وحوالي 90 الف جندي عثماني، ومئات الآلاف من الجرحى من الطرفين.

ويقول التاريخ أن المعركه كانت تهدف إلى غزو إسطنبول، عاصمة الدولة العثمانية، ومن ثم الدخول إلى الجزء الشمالي الشرقي من تركيا، لمساندة روسيا ضد القوات الألمانيه، حيث طلبت روسيا من فرنسا وبريطانيا مساعدتها ضدّ القوات الالمانيه في الجانب الشرقي، بعد أن تكبّدت القوات الروسية خسائر كبيره امام الالمان.

 

ويقول التاريخ أن القائد التركي مصطفى كمال أتاتورك أشرف على هذه المعركه من الجانب العثماني، ويقول التاريخ أن معركة جاليبولي نقطه سوداء في التاريخ العسكري البريطاني، بعد هزيمتهم بها امام القوات العثمانيه.

 

هذا ما يقوله التاريخ … فما الذى تقوله السينما ؟!

على الرغم من كونها تجربته الإخراجية الأولى، الا ان المخرج من أصل نيوزيلندي -والممثل الشهير- (راسل كرو)، استطاع اثبات قدراته الإخراجية من خلال عمله الأول، الذى قام ببطولته أيضا فى مغامرة تمثيلية إخراجية لا يقدم عليها سوي أبناء برج الحمل، الذين يميلون دائما لتجربة كل جديد وتذوق كل مغامرة.. حتي الرمق الأخير.

 

يبدأ الفيلم بمشاهد افتتاحية لراسل كرو، الذى تحول الى (كونور)، المنقب عن الماء، والذى يصطحب كلبه فى رحلة مدعومة بأجهزة بدائية وحاسة سادسة، للبحث عن الماء فى الصحراء الأسترالية مترامية الأطراف. يتوقف مطولا أمام أحدي البقاع، ثم يبدا فى الحفر بجدية.

    مشهد الحفر الذى دعي البعض للتساؤل عبر الأنترنت، هل قام راسل كرو بحفر البئر وحده حقا؟! يبدأ المشهد ببعض ضربات الفأس، يتطور الأمر لصراع حقيقي بين الرجل والتربة الخشنة، يخلع قميصه بعناد ويبدا فى توجيه الضربات واحدة تلو الأخري، يحمل المشهد اسقاطا مباشرا على خط سير الأحداث فى البقية الباقية من الفيلم. نعرف من مشهد الحفر أن (كونور) عنيد، وأن لديه حاسة سادسة لا تخطيء أبدا.

 

يعود (كونور) فرحا بحفر البئر، تقابله زوجته بوجوم، تطلب منه أن يحكي قصة قبل النوم للأولاد، فقط لنكتشف أنه يحكي لثلاثة أطفال مفقودين، استعاضت زوجته عن كل منهم بملابس نومه، وبقيت هي تلمع حذاء أحدهم تماما كأنهم يعيشون معها تحت سقف واحد، وهنا نبدأ فى اكتشاف مأساة (كونور)، لقد فقد أبناؤه الثلاثة فى الحرب العالمية الأولى التي لا ترحم.

وكأنما لا يكفيها فقدان عقلها، تزهق الزوجة روحها بنفسها فى مشهد بائس، يرجو (كونور) القس أن يدفع زوجته المنتحرة كما ينبغي، فيخبره بقلب لا يلين أن الكنيسة لا تفتح أبواب رحمتها للمنتحرين، نكتشف أن (كونور) فقد ايمانه مع أبناؤه، لكن الزوجة لم تفعل، يحفر قبرها بنفسه ويتبرع بعربته للكنيسة مقابل مباركة الكنيسة، وينطلق فى رحلة لا تنتهي بحثا عن ابناؤه.

يتجه (كونور) الى اسطنبول، لا ينسى اهلها محاولة الأستراليين غزوهم، يقابله اول ما يقابله فى الأرض العدائية طفل صغير يجبره على التوجه لفندق صغير تديره الجميلة (أولجا كيرلنكو) فى دور (عائشة)، التي لا ترحب بالأسترالى الغريب فى البداية، تبدو مهمومة هى الأخرى بالذكرى زوجها المفقود فى عمليات الحرب العالمية الأولى العسكرية.

لا يبدي القادة العسكريين اهتماما بقصة (كونور) عن ابناؤه، يخبروه أنه لا يستطيع السفر للبحث عن اولاده حيث يبغي، لان المنطقة لاتزال خاضعة لنفوذ عسكري حديث، لكنه يشد الرحال رغما عن انف الجميع، مدفوعا برغبة دفينة وشعور لا يخيب بمكان رفات ابناؤه.

حيث يجد رفات الجثة الأولى، يجد عندها (يلماز أردوغان) او القائد العسكري التركي الميجور (حسن)، والذى يساعد القوات الغازية على تحديد رفات جنودها، (حسن) فى أغلب الأحوال هو قاتل الأسري الأستراليين بدم بارد، يندفع (كونور) نحوه راغبا فى قتله، الا ان محاولته تبوء بالفشل، فقط ليخبره (حسن) ان ابنه الثالث لايزال حيا فى مكان ما، وتنشأ صداقة غريبة بين الرجلين اللذين كانا منذ دقائق ألد الأعداء.

يستمر (كونور) فى البحث عن ابنه الثالث المفقود، مع مشاهد غاية فى الدموية تعرفنا كيف اصيب الاشقاء الثلاثة فى المعركة الدامية، وكيف بقى أحدهم يصارع الموت باستماتة مطلقا صرخات تدمي القلوب، انه مشهد الاحتضار الذى اثار عواطف المشاهدين واسال الدموع من أعين معظم المتواجدين فى قاعة العرض السينمائى حيث شاهدت الفيلم.

تتقاطع رحلة البحث التى يقوم بها (كونور) مع مشاعره نحو (عائشة)، يطمع شقيق زوجها الراحل فى الزواج منها حرصا على التقاليد، او طمعا فى الفتاة الجميلة التي ترفض الزواج تحججا بالبحث عن زوجها المفقود، لكن الحقيقة هى انها تكره شقيق زوجها، وتتهرب من محاولاته التقرب منها، ليفوز الأسترالى الغريب بالقلب الذى حرم الحب على نفسه بعد وفاة الزوج، يجن جنون شقيق الزوج ويسعي لطرد (كونور) من اسطنبول بأى شكل، يتفق مع السلطات التركية على ترحيله، ويهرب (كونور) بمساعدة (عائشة) فى اللحظات الأخيرة ليبدأ الفصل الأخير فى البحث عن ابنه المتبقى.

تخبره عائشة عن التقاليد التركية، عندما يتقدم احد الرجال لخطبة واحدة من النساء، فاذا قدمت له قهوة مرة فهذا يعني  الرفض، واذا كانت القهوة مسكرة يعني هذا الموافقة، وكلما زادت نسبة السكر فى القهوة كلما زادت نسبة الموافقة.

يلتقى (كونور) بابانه الضائع فى النهاية، يهب نفسه للخدمة من الكنيسة، يرسم الايقونات على الأسقف، يدور فى دوائر بلا بداية ولا نهاية، يسأله (كونور) : اذا كنت قد استطعت البقاء على قيد الحياة لماذا لم تعد ادراجك للمنزل؟! يحكي له الأبن كيف اشتدت الأزمة به وباخوته، وكيف اضطر لاطلاق النار على راس اخيه ليريحه من عناء لحظات الاحتضار الأخيرة.

يرفض الفتي العودة مع ابيه الى استراليا، خجلا من ذكرى الاخوة القتلي.

– لقد امضيت عمري بحثا عنك ولم يعد أمامي غيرك، ان كنت ستعود فسنعود سويا، وان كنت ستبقى سنبقى لنموت سويا.

هكذا يخبره (كونور) بحسم، ويبدأ الفصل الأخير للهروب من القوات المتحمسة، والاهالى الغاضبة بحثا عن الرجل الاسترالى الدخيل عليهم.

ينتهي الفيلم و (كونور) قد التقى بعائشة مجددا، تقدم له فنجالا من القهوة، ولا تبدي استغرابا من عودته اليها بعدما عثر على ابنه، تخبره انها رأت كل شىء فى فنجال القهوة الخاص به، يرتشف بعضا من قهوته التي تقدمها له، فقط ليكتشف قطعة السكر الضخمة التى قدمتها له!

ينتهي الفيلم وقد ربح (كونور) رحلته، اعاد اكتشاف نفسه، انقذ ابنه، وعثر على حب حياته مجددا.

يعتبر الفيلم هو الفيلم الطويل الاول الذى يقوم باخراجه الممثل العالمي (راسل كرو)، ويمكننا المراهنة باطمئنان على قدراته الاخراجية المتميزة التي ظهرت بشده فى الفيلم الذى وقف فيه ممثلا ومخرجا فى أن واحد.

يمكننا ملاحظة كيف جذبت (اسطنبول) أطقم التصوير الامريكية فى الاونة الاخيرة، من خلال تصوير عدد كبير من الاعمال التي تتناول منطقة الشرق فى المدينة التي تجمع الطراز الغربى والشرقى فى أن ، وكيف استطاع (كرو) تطويع المدينة للحصول على عدد من المشاهد المتميزة ذات الطبيعة الخلابة والتى استطاع التركيز عليها من خلال المشاهد الواسعة للكاميرا.

الموسيقي التصويرية المستمدة فى بعض جملها من الموسيقي التركية الشرقية استطاعت ان تخلب البابنا منذ اللحظة الاولى، وتم توظيف الموسيقي فى سياق الاحداث الدرامي بشكل متميز يحسد عليه صناع الفيلم.

The water diviner لا يبدو كفيلم يجسد صراع أب مكلوم بحثا عن اولاده الضائعين، بل يتجاوز ذللك المعني البسيط لتتحول الرحلة لبحث عن الذات … والحب.

زر الذهاب إلى الأعلى