كيرة والجن: أبسط ما يستحقه تاريخ مصر من السينما
ظلم سينمائي كبير، تعرضت له مصر في الأفلام اللي تناولت أهم أحداثها التاريخية القديمة نسبياً، من خلال تناولها في أفلام ضعيفة بميزانيات قليلة وبدون اقبال جماهيري كبير. يمكن لأن الهدف من الأفلام دي كان سياسي أو اجتماعي قبل ما يكون ترفيهي صرف، ولأن القائمين على الأعمال دي كانت بتحركهم -في الغالب- توجيهات سياسية، أو توجهات قومية. ومكانوش بيشتغلوا بمزاج رايق، أو بميزانية كبيرة. وده اللي استفاد منه صناع (كيرة والجن) وقرروا عدم تكراره.
كيرة والجن هو مشروع سينمائي مميز بين مروان حامد مخرجاً، وأحمد مُراد مؤلفاً، للتوثيق لسنوات فارقة في نضال الشعب المصري ضد الانجليز. اللي استمر من ١٨٨٢ الى ١٩١٨م لكن التوثيق ده كان في اطار من الأكشن والدراما والرومانسية، اللي تخلي ٣ ساعات هي زمن الفيلم يمروا علينا بدون ما نشعر بيهم.
أحداث كيرة والجن – المقتبس عن رواية ١٩١٩ لأحمد مراد- بتبدأ مع حادثة دنشواي، اللي تم اعدام مجموعة من الفلاحين المصريين فيها بالظلم بعد خناقة قامت بينهم وبين بعض الجنود الانجليز. علشان نكتشف أن ابن واحد من الفلاحين اللي تم اعدامهم، بيقرر ينضم لخلية مقاومة سرية بتشتغل تحت كافيه ريش الشهير في وسط البلد. هو ده أحمد كيرة -شخصية حقيقية بالمناسبة، وقام بدوره الفنان كريم عبد العزيز- اللي يعتبر مدخلنا لعالم المقاومة السرية ضد الانجليز في مصر.
خلية المقاومة بتضم باقي أبطال (كيرة والجن).. ومنهم دولت فهمي -قامت بالدور هند صبري- وأبراهيم شوكت (قام بالدور أحمد مالك) وإبراهيم الهلباوي – قام بالدور سيد رجب- وغيرهم.
في رواية ١٩١٩ شوفنا قصة كل واحد من أبطال المقاومة بالتفصيل، لكن في (كيرة والجن) بنشوف ملخص لحياة كل واحد منهم بصوت الراوي، توفيرا لوقت الفيلم واختصارا للأحداث. ودي مش الحيلة الدرامية الوحيدة اللي خالف فيها احمد مراد روايته فيها، بل على العكس نقدر نقول أن في كيرة والجن تمت إعادة صياغة الأحداث بالكامل بما يتناسب مع السينما، بحيث تحولت الرواية لمجرد مرجع للأحداث، على العكس من باقي أعمال مراد السينمائية المأخوذة عن رواياته، واللي كان بيتم الالتزام فيها بالرواية بشكل كبير. وده تطور يحسب لمراد أن أصبح عنده لغة سينمائية متفردة بذاتها، ومختلفة عن السياق الروائي تماما.
كل ده كان هايكون مالوش أثر لولا المبدع مروان حامد. الكيميا والتعاون المستمر بين مروان ومراد واضحة جدا، خاصة لو أضفنا لها كريم عبد العزيز. الثلاثي ده أصبح (ختم جودة) بنشوفه كل عيد أضحى في عمل مختلف. مروان حامد مُخرج مُجتهد لأقصى درجة. وعنده قدرات رائعة في استخدام المجاميع والتحكم في حركتهم، مع توظيف ذكي جدا للمؤثرات الخاصة يكاد يكون غير مرئي، لكن مؤثر على الشاشة. بعض التفاصيل الصغيرة كانت محتاجه تحسين، زي مشهد لاحمد مالك كان المفروض نشوفه وهو جثة، لكن عينه كانت بترجف بشكل واضح لكل المشاهدين في القاعة. وزي اخراج مشاهد الأكشن اللي كان محتاج يكون أبطأ شوية علشان نعرف مين بيضرب مين. لكن بشكل اجمالي الإخراج يعتبر ممتاز.
مافيش كتير نقدر نقوله على أداء كريم عبد العزيز/ أحمد عز/ هند صبري.. التلاته أصبحوا بيغردوا خارج السرب تماما، ووصلوا لمراحل اتقان أكثر من رائعة. أحمد عز أدى شخصية عبد القادر الجن من نفس منطقة الأمان اللي بيحب يأدي معظم أدواره منها، وهي منطقة الشاب الشقي الجريء لدرجة تقترب من الوقاحة، ودي منطقة مش جديدة على عز، لكن الجديد عليه بعض المشاهد الدرامية الممتازة اللي شوفنا منه فيها أداء مختلف، بنظرات عينيه، وحركة جسمه.
هند صبري في واحدة من أفضل ظهوراتها، بعد أداء سىء في الفيل الأزرق ٢ ، بنشوفها بتستعيد أمجادها من جديد. ممثلة صلبة متملكة من الشخصية اللي بتجسدها وعارفه حدودها وأبعادها كويس. ممثلة عارفه تستخدم أدواتها من نظرة عينها لحركة جسمها لنبرة صوتها، علشان توصل لنا تجسيد أكثر من رائع لمناضلة عظيمة في التاريخ المصري.
سيد رجب.. وما أدراك ما سيد رجب.. نقدر نقول عليه صاحب الدور القليل من حيث الظهور، لكن المؤثر جدا من حيث الأحداث. وعمل تعبير واحد بعينه في واحد من المشاهد بدون ما ينطق كلمة واحدة، خلى قاعة السينما تقع على الأرض من فرط الضحك.
لكن.. أدوار روبي/ أحمد مالك/ لارا اسكندر/اياد نصار كان ممكن استبدالها بممثلين تانيين بدون ما نلاحظ أي فرق. لكن واضح أنه كان لازم يتم الاستعانة بأكبر قدر من الأسماء المهمة والقوية، حتى لو في أدوار بسيطة، لأغراض تسويقية معروفة طبعا. ودي حاجه ما تضايقش، لكن ما حسيناش ان كان لها إضافة كبيرة في الفيلم.
مفاجأة الفيلم كانت مع الجميلة رزان جمال، رزان اللي لعبة دور ماجي في مسلسل ما وراء الطبيعة اللي أخرجه عمرو سلامة وقام ببطولته أحمد أمين. الحقيقة أن رزان قدمت دور رائع، مع نطق انجليزي عظيم بلكنة بريطانية مافيهاش غلطة. وكان عليها عبء الجانب الرومانسي في الأحداث لتخفيف وطأة الدموية والأكشن اللي كانت مسيطرة على الفيلم.
وبالحديث عن اللكنة.. ماشوفناش فيلم مهتم بالتفاصيل الصغيرة زي اللكنة، أو نوعية العربيات والأسلحة المستخدمة، أو حتى تفاصيل الحياة الصغيرة والبسيطة زي (كيرة والجن)، لدرجة الاستعانة بالممثل البريطاني الأصل سام هازلدين في دور الظابط هارفي، القائد الإنجليزي اللي مهتمته سحق المقاومة المصرية.
والحقيقة أن الكلام عن شخصية (هارفي) محتاج وقفة شوية. لأنه تجسيد لازاي كاتب السيناريو المحترف بيعمل شغله. شخصية هارفي هي شخصية الشرير أو الـ (الڤيلين) زي ما بتتقال بلغة السينما. ولاحظنا في معظم الأفلام اللي تناولت أحداث تاريخية مصرية، أن العدو دايما بيتم تقديمه في صورة الغبي الأحمق عديم الفهم. وده بيخلي التفوق عليه سهل ومافيهوش إحساس بالانتصار عند المشاهد. وده اللي تغلب عليه أحمد مراد باحترافية.
شخصية هارفي هي شخصية تم التأسيس لها بدون استهتار، لظابط بريطاني فذ، خبير في اقتفاء الأثر وملاحظة اللي مش بيلاحظه غيره، وعنده خبرة واسعة في تحليل مسرح الجريمة، ونراهن بنص مليون دولار أن مراد اقتبس الجانب الأكبر من شخصية هارفي من شخصية قدمها في روايته الأحدث (لوكاندة بير الوطاويط) وهي شخصية المحقق (سليمان افندي السيوفي). بالتالي التغلب على الظابط بيخلي المشاهد يحس بنشوة الانتصار. وده تمت ترجمته في تسقيف المشاهدين بعد نهاية الأحداث، دلالة على تفاعلهم وتوحدهم مع الأحداث.
فرق معانا جدا موسيقى هشام نزيه. وهشام موسيقار عالمي -انضم مؤخرا للجنة التحكيم في الأوسكار.. ونحب نبارك للأوسكار بمناسبة الخبر ده!- وعمل في كيرة والجن موسيقى رائعة، لكن ماسابتش بصمة معانا واحنا خارجين من القاعة، ويمكن دي من المرات القليلة اللي مانفتكرش فيها موسيقى لنزيه واحنا خارجين من القاعة.
كان عندنا مشكلة مع الربع الأخير من الفيلم، واللي بنشوف فيه التمهيد للنهاية، وخصوصا مشاهد الصراع في تركيا، واللي مش هانقدر نحكي عنها كتير علشان مانحرقش الأحداث، لكن كان فيه بعض التطويل وعدم المنطقية في الأحداث، لدرجة أن بينما كان المفروض الجمهور كله مشحون بالأحداث، كتير منهم ماقدرش يمسك نفسه من الضحك في بعض المشاهد اللي كان المفترض تكون في قمة التراجيديا.
كيرة والجن، خطوة موفقة في مشروع عملاق، بيتصدى له أحمد مراد لوحده تقريبا، وهو إعادة تقديم وكتابة التاريخ المصري المعاصر والقديم، بشكل جاذب للمشاهدين من كل الفئات، وبدون خطب وعظية، أو تسفيه من دور الأعداء. ويكفي أن كان معانا صديق محرر كايرو ٣٦٠ المصري من أصول أجنبية، واللي كانت أول مرة يسمع عن حادثة دنشواي وتداعيات ثورة ١٩١٩ من خلال أحداث الفيلم. وحاليا أصبح متحمس يشوف أعمال أكتر عن النضال المصري في تاريخها المعاصر…
يارب تكون الرسالة وصلت.