مقالات كايرو 360

زيارة مسجد السلطان حسن: رحلة في الزمان للقاهرة المماليك.

قراءة سهلة

لو متوقع أننا هانحكي هنا عن قصة مسجد السلطان حسن، وتاريخ العريق وتصميه الفريد، يؤسفنا نقول لك أنك في المكان الغلط، وأن ويكيبيديا مليانه معلومات أكثر عن واحد من أهم الأثار الإسلامية في العالم. لكن اهتمامنا الأساسي، هو أننا ننقل لكم القصة وراء التاريخ العريق للمسجد. شعورنا بالرهبة، لما لمسنا بإيدنا جُدران ونقوش، مر عليها حوالي ٧٠٠ سنة. مشينا بأرجلنا على أرض، شهدت دروس دين، ومعارك، وصولات وجولات لا تنتهي.

تعالوا نحكي لكم قصة مختلفة عن مدرسة ومسجد السلطان حسن. لأنها مش قصة تاريخية روتينية. بقدر ما هي تجربة شخصية وحالة إنسانية تستحق الحكي.

قبل ما نتعمق في قصتنا مع السلطان حسن، كانت كل معلوماتنا عنه أنه مسجد عظيم، مرسوم على ورقة الـ ١٠٠ جنيه المصرية. لكننا قرأنا مؤخراً رواية للدكتورة ريم بسيوني فتحت أمامنا أفاق مختلفة للمسجد. الرواية هي “أولاد الناس.. ثلاثية المماليك” واللي المسجد كان بطلها الأول تقريبا، من خلال تناول قصص متعلقة به، على مدار ٣ عصور مختلفة بتمثل تأريخ لحياة المماليك في مصر.

دَعِ الأَيّامَ تَفعَلُ ما تَشاءُ

  وَطِب نَفساً إِذا حَكَمَ القَضاءُ

  وَلا تَجزَع لِحادِثَةِ اللَيالي

  فَما لِحَوادِثِ الدُنيا بَقاءُ

بعد انتهائنا من قراءة الرواية، حسينا برغبة كاسحة في زيارة المكان اللي شهد كل الأحداث دي. المسافة من وسط البلد للمسجد الموجود في منطقة الدرب الأحمر، والقريب من القلعة، مش بتاخد غير دقائق معدودة بالسيارة. لكن بمجرد دخولنا ساحة المسجد الخارجية، حسينا اننا انتقلنا في الزمان للقاهرة المملوكية.

وكأن المهندس محمد ابن بيليك المحسني مُشيد المسجد، عنده رسالة عاوز يوصلها لكل اللي بيزور مسجده، بمجرد دخولنا من البوابة الرئيسية، هانمر في ممر ضيق نسبيا، بإضاءة خافتة، وكأنها رحلة الانسان في بداية ولادته، وخروجه من رحم أمه للحياة. ثم نصل الى منتصف المسجد بتصميمه المبهر، والأركان الأربعة اللي كانت مُصممة لتدريس المذاهب الإسلامية كلها. وكأن هذه المنطقة بتمثل مرحلة شباب الإنسان، قوته وعظمته، إبهاره للعالم بعلومه وقدرته. ثم المنطقة الأخيرة في المسجد هي منطقة الضريح، وكأن رحلتنا في المسجد هي رحلة في (ماكيت) مصغر لحياة الانسان على الأرض.

إِذا ما كُنتَ ذا قَلبٍ قَنوعٍ

  فَأَنتَ وَمالِكُ الدُنيا سَواءُ

  وَمَن نَزَلَت بِساحَتِهِ المَنايا

  فَلا أَرضٌ تَقيهِ وَلا سَماءُ

مسجد السلطان حسن، لم يكن أبدًا مجرد مكان للعبادة فقط، بل كان مدرسة للعلوم، ودار لرعاية الأيتام، ومكان لحفظ القران والعلوم الشرعية، بالإضافة لوجود أماكن لنوم الطلاب وإقامتهم الكاملة في المدرسة. ومع الغزو العثماني لمصر، تحولت المدرسة لحصن عظيم. كان المماليك بيقفلوا أبوابها عليهم، ويبدأوا في تبادل ضربات المنجنيق والمدافع مع القلعة، القريبة من المسجد. حتى أن السلطان الظاهر برقوق أمر بهدف السلم الموصل لسطح المدرسة لمنع المماليك من الوصول له. ولحد النهرده لما نتأمل المسجد من الخارج، نجد علامات ضرب المدافع واضحه عليه. وده كان في الفترة الصعبة اللي كانت مصر فيها ساحة صراع مفتوح بين المماليك والعثمانيين على الاستيلاء على مصر. الفترة اللي ظهرت فيها أسمها بعظمة طومان باي، وقنصوة الغوري، ودورهم في الحفاظ على البلاد من الغزو العثماني، في ظل فترة اشتهرت بالمؤامرات، والخيانة، والدسائس والمعارك المروعة.

وَأَرضُ اللَهِ واسِعَةٌ وَلَكِن

إِذا نَزَلَ القَضا ضاقَ الفَضاءُ

دَعِ الأَيّامَ تَغدِرُ كُلَّ حِينٍ

فَما يُغني عَنِ المَوتِ الدَواءُ

على الرغم من تاريخ المسجد اللي مكانش كله سِلمي زي ما شوفنا، لكن مجرد الجلوس في أي ركن من أركان المسجد بيخلينا نشعر براحة نفسية عميقة. وكأننا في خلوة عابد متصوف، قرر يخرج من اطار الزمان والمكان. ويختلي بنفسه. من وقت لأخر بنسمع بعض التواشيح والابتهالات بصوت جميل من مقيم الشعائر في المسجد. حوالينا بيطير حمام بيتحرك بأمان بين الناس، ودي فرصة عظيمة نرفع عيوننا لأعلى ونتأمل الزخارف العظيمة اللي في كل أركان المسجد تقريباً، والأيات القرأنية المكتوبة بخط بديع على الأبواب. وأحيانا بنشوف بعض القطط الأليفة اللي تصاحبت مع الوقت على زوار المسجد، و بنشوف أفواج من السياح اللي بتزور المكان باستمرار. مهما كانت جنسية السُياح، في كل مرة بنشوف في عيونهم نظرة الانبهار، ونسمع منهم شهقات الدهشة من المسجد الملقب بهرم العمارة الإسلامية، ودرة تاج العمارة الإسلامية، وده مش كلامنا احنا. ده كلام رحالة ومؤرخين، ورجال هندسة وغيرهم من الفاهمين للعمارة بأشكالها المختلفة.

وَلا تُرِ لِلأَعادي قَطُّ ذُلّا

  فَإِنَّ شَماتَةَ الأَعدا بَلاءُ

  وَلا تَرجُ السَماحَةَ مِن بَخيلٍ

  فَما في النارِ لِلظَمآنِ ماءُ

بالقرب من مسجد السلطان حسن، بنشوف مجموعة من المساجد  والمباني الأثرية العظيمة. منها مثلا مسجد الرفاعي، اللي بنشوف بوابته من شبابيك مسجد السلطان حسن، والمدفون فيه الأسرة الملكية اللي حكمت مصر. مسجد عظيم، لكن زيارتنا له بعد زيارة السلطان حسن أفقدته جزء كبير من رونقه في عيوننا، بسبب انبهارنا بمسجد السلطان حسن اللي لا يضاهيه انبهار.

في رأينا، أن  السر الحقيقي لعظمة مسجد السلطان حسن، هي قدرة من بناه على فهم، أن العظمة الحقيقية للإنسان لا تقاس بعدد المعارك اللي خاضها وانتصر فيها، أو عدد الممالك اللي خضعت له، أو قدر ما اكتنزه من ذهب وفضة. لكن العظمة الحقيقية هي قدرة الانسان على عمارة الأرض، وعلى ترك مباني تعبر عن طبيعة الحياة في العصر ده. عن قدرة المبنى على أنه يحكي حكاية من شيدوه وعاصروه. وعلى نقل القصة لأجيال قادمة.

*الأبيات الشعرية للإمام الشافعي عليه رحمة الله.

زر الذهاب إلى الأعلى